مقالات

الاستقرار وحق تقرير المصير

مشاركة

خالد حسو

هناك شعوب تولد لتظل صامدة، تتحدى الزمن والظروف، وتحفر اسمها على صخور التاريخ بدمائها وبسالتها، وشعب الكورد هو أحد هذه الشعوب.
جذورهم عميقة في الأرض، ممتدة عبر آلاف السنين، منذ أقدم الحضارات التي شهدها الشرق الأوسط، حيث يؤكد المؤرخون أن الكورد من أحفاد الميديين، ومن أعرق الشعوب التي سكنت هذه البقعة من العالم، شعب لم يعرف الانكسار، ولم يقبل الذل، بل صاغ من جبال وطنه حصنًا لا يُقهر، ومن تاريخه ملحمة خالدة لا تموت.
في عام 612 قبل الميلاد، استولى الكورد على مدينة نينوى، وبعد انهيار الإمبراطورية الميدية ووقوعها تحت سيطرة الفرس، لم يرحلوا ولم يتنازلوا عن أرضهم.
ظلوا صامدين في جبالهم المنيعة، يواجهون الغزاة والمحتلين بعزيمة لا تلين، حاملين على أكتافهم إرثًا من الحرية والكرامة، مكتوبًا في دماء أسلافهم.
كتب المؤرخ والقائد العسكري اليوناني كسينوفون في أنابازيس – حملة العشرة آلاف عام 400 قبل الميلاد، عن شجاعة الكوردوخويين حين خاضوا الحرب معه، مؤكدًا على تمسكهم بوحدتهم وصمودهم أمام محاولات زرع الفُرقة والضعف، وكأن جبالهم الصامدة تنطق بقوة إرادتهم.
لقد ظلوا يقاتلون، ولا يهابون الموت، ولا ينسون حلمهم الأبدي: العيش أحرارًا على أرضهم، أحرارًا، مستقلين بذاتهم. وفي القرن السابع الميلادي، خلال الغزوات الإسلامية، عرف الكورد باسمهم الحالي وموطنهم باسم كوردستان.
رغم تتابع الغزوات والسيطرة الخارجية من شعوب وممالك متعددة، ظل الشعب الكوردي حصنًا صامدًا، يقف جنبًا إلى جنب مع شعوب المنطقة، يدافع عن العرب والمسلمين ضد الغزوات الصليبية، ويحافظ على كرامة أرضه وهويته.
ومع مطلع القرن العشرين، قاوم الكورد في سوريا والعراق الاستعمار الفرنسي والإنكليزي، مقدمين دماء أبنائهم دفاعًا عن الحرية وحقهم في الوجود، متحدين مع شعوب المنطقة المجاورة، متحدين مع العدالة، متحدين مع التاريخ نفسه. ولكن، رغم كل هذا النضال، جاءت أعظم مصيبة لهم: تقسيم وطنهم، كوردستان، بين الإمبراطورية الصفوية الشيعية والإمبراطورية العثمانية السنية، في معركة جالديران عام 1514. ومع انهيار العثمانيين بعد الحرب العالمية الأولى، قامت القوى الاستعمارية برسم الحدود على خرائطها، عبر اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، فاقتُسمت كوردستان بين أربع دول: تركيا، إيران، العراق، وسوريا.
منذ ذلك الحين، أصبح الشعب الكوردي حبيسًا بين حدود رسمها الغرب، وافتخر بها كل حاكم مستبد، بينما بقي الكورد مهملين، مضطهدين، ومحرومين من أبسط حقوقهم القومية والإنسانية. ورغم كل هذه المؤامرات، لم ينهزم الكورد. عبر العصور، لجأوا إلى كل أشكال النضال:
الثورات، الانتفاضات الشعبية، النضال الفكري والسياسي، الحوار، والتفاوض، دفاعًا عن حقهم في الوجود، في الحرية، في العدالة، وفي الاعتراف بهم كشعب مستقل يملك حق تقرير مصيره، مثل باقي شعوب العالم، إن نضال الكورد الطويل عبر آلاف السنين هو شهادة على إرادة لا تنكسر، على شعب يرفض الذل، على أمة تبحث عن الحرية والكرامة في قلب صحراء الحقد والاستعمار. وكل صفحة من تاريخهم، وكل جبل صامد في كوردستان، يروي قصة الشجاعة والتضحية، يردد صرخة الحق والحرية، ويؤكد على أن الحرية ليست هبة، بل حق يُنتزع بالتضحيات والصمود. وفي ظل هذه الحقيقة التاريخية والسياسية، يفرض سؤال محوري نفسه:
ما هو حق تقرير المصير؟
إنه الحق الذي لا يُسلب، والحرية التي لا تموت، والطريق الذي يسلكه كل شعب يريد أن يحيا كأمة حرة على أرضه، وأن يكتب اسمه بيديه على صفحة التاريخ، لا أن يُكتب له من قِبل الآخرين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى