لا يمكننا أن نعالج القضايا والأزمات التي نتجت بسبب فقدان وعي الحقيقة والتقاليد الديمقراطية والأخلاقية والذاتية المشرقية المجتمعية والحياة التشاركية بين الرجل والمرأة، بمزيد من الأنانية والعقليات والممارسات السلطوية والدولتية والذكورية، وارتكاب الابادات.
ويتعرض الشرق الأوسط منذ القرن الثاني عشر الميلادي وحتى اليوم، لمزيج من حالات ضعف الذاتية المشرقية وتحجيم التقاليد الأخلاقية والتشاركية المجتمعية وقيمها المعنوية والمادية المختلفة مع تزايد ظواهر التشرد الطائفي والاحتراب السلطوي الإلغائي، أمام صعود وزيادة التدخل والهيمنة الغربية بأسلوبها وقيمها وطرازها أي بحداثتها التي تشكلت وخاصة مع القرن السادس عشر وتبلور الماهية الأوروبية بظهور نهضتها وتحولها الديمقراطي الداخلي الليبرالي والهيمني الخارجي، أمام ضعف وتفتت الحضارة أو الأصح المدنية الإسلامية الممثلة لآخر مدنيات الهيمنة المشرقية السلطوية، وثقافتها ووعيها المتهالك، تلك الثقافة الاجتماعية الإسلامية، التي نال منها إسلام السلطنة والدولة والطبقة الارستقراطية بعد سد الطريق أمام التحولات الديمقراطية والأخلاقية فيها منذ عهد الخلافة العباسية قبل الرأسمالية الغربية، والتي تشكلت كنظام لحماية أوربا أولاً، وثم توغلت كرأس مال محتكر وكاستعمار وهيمنة وسلطوية على ساحات وشعوب الشرق الأوسط والعالم.
إن أكبر أمم الشرق الأوسط التي تتمثل في العرب والكرد والترك والفرس، كانوا وما زالوا يشكلون مع التكوينات الاجتماعية الأخرى، البيئة الاجتماعية المشرقية المتكاملة الصلبة التي تستطيع مواجهة التحديات الداخلية والخارجية وتأمين عوامل الاستقرار والأمان، بشرط أن تكون ساحة الحياة والعمل والحرية والقرار المصيري مفتوحة ومتشاركة ومعبرة عن تجسيد مجتمعية الأمم الأربعة معاً بشكل اتحادي وطوعي وكذلك كل التكوينات الاجتماعية وفق الخصوصية المشرقية الأخلاقية السياسية و الديمقراطية، وليس وفق منهجية الفساد والأحادية الموجودة والعقلية الدولتية الاستبدادية.
تم فرض التقسيم على الشرق الأوسط ومعه اصطناع البنى الثقافية والسياسية والاجتماعية التقسيمية التناحرية اللازمة، لتكون دول وشعوب الشرق الأوسط كتل مطيعة أداتية وقتها وغير مهددة للإنكليز وممهدة كذلك لتكوين إسرائيل، ومنظومة دولتية شرق أوسطية مخصية، وتكون بذلك جغرافية المنطقة وشعوبها عبارة عن خطوط سكك وطرق مواصلات ومنابع طاقة وبترول واستراحات وأحياناً مكب نفيات نووية وحراس مضائق وطرق وأيضاً جغرافيات لتكون جسور وصل بين الكتل السكانية العالمية المهمة وهي الهند وأوروبا أو جنوب غرب آسيا والصين وأوروبا بالعالم المهمة للنظام الرأسمالي العالمي ودورته الاقتصادية، وهنا كانت إحدى أهميات الشرق الأوسط الذي ربما سنشاهد أحد دوراتها وفصلوها مجدداً مع الممرات والطرق التي تقترحها القوى العالمية والإقليمية المرتبطة بهم.
تسود منذ عشرينيات القرن العشرين وحتى اللحظة، أسوء منظومة للتناحر والترهيب والقتل وإبادة الجنس أو الإبادات الجماعية والثقافية، بيد قوى من الشرق الأوسط ومن أممها، ونعتقد أن عقلية هذه القوى والأحزاب والسلطات والمعارضات هي المشكلة الأولى، كونها ليست مشرقية تشاركية اتحادية، بل سلطوية دولتية احتكارية وقيمها أحادية صفرية دولتية سلطوية وسلوكها استبدادي قمعي ومجتمعاتها نمطية متجانسة وليست وفق الحقيقة والطبيعة التعددية الموجودة، وهنا كانت الطامة الكبرى، حيث ساد الأنا العليا الفوقية من محاولة تقمص الألوهية و الفردية المتضخمة والقوموية الفاشية والدينية الطائفية إلى المذهبية الاحترابية والمناطقية والذكورية، بدل المجتمعية الديمقراطية والدينية الأخلاقية والمذهبية الاحترامية والشرق أوسطية التكاملية التضامنية.
ما حصل ويحصل في البلدان العربية للشعوب العربية والأزمات التي تعصف بهم من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية، وما حصل ويحصل للشعب الكردي من إبادات ومجازر لاتعد ولا تحصى، لهدف تصفيته والقضاء عليه بعد منع لغته وثقافته وأي خصوصية كردياتية له، وكذلك ما يحصل في تركيا وأزماتها المتعددة وحروبها ضد الشعوب في داخل تركيا وخارجها ومشروعها العثمانية الجديدة والميثاق المليّ، وما حصل مع الشعوب في إيران وفرض منهجية ولونية إسلاموية شيعية فارسية، وممارسة تقاليد السلطة الأخمينية والاغتيالية الحشاشية بحق الشعوب والثقافات والحياة والمرأة في إيران ومشروعها الشيعة القومية، وما يحصل في إسرائيل من محاولات تحجيم الديمقراطية الإسرائيلية بعد اتفاقات أبرهام وتزايد اليمينية التشددية والشعور بإمكانية تحقيق الاندماج مع المحيط العربي والإسلامي بعد قرب الاتفاق مع السعودية. نعتقد أنه أكبر مكسب ومنجز للهيمنة العالمية الرأسمالية بحق مجتمعات وشعوب الشرق الأوسط وفرض الثنائيات القاتلة المتناحرة من كل جزء وشعب وأمة، أو الاتفاقات الاستسلامية التي يعتقد البعض أنه الاستقرار كما في اليمن وأرتساخ (ناكورني كرباخ) حتى غدونا وكأننا نعيش الفتنة ومتلبسين بها و لم نعش مع بعضنا كشعوب ومجتمعات من كثرة الضخ والقذف الإعلامي التحريضي والتكفيري والإنفصالي التشويهي، و كذلك التعليم البعيد عن المجتمع ومصالحه وأولوياته، والذي ينتج أدوات للدولة والسلطة وليس بناء الإنسان الكادري الذي يخدم مجتمعه ونفسه وبيئته والإنسانية كمعيار أخلاقي وإنساني للذاتية الأخلاقية.
لا يمكننا أن نعالج القضايا والأزمات التي نتجت بسبب فقدان وعي الحقيقة والتقاليد الديمقراطية والأخلاقية والذاتية المشرقية المجتمعية والحياة التشاركية بين الرجل والمرأة المشرقية، بمزيد من الأنانية والعقليات والممارسات السلطوية والدولتية والذكورية، وارتكاب الابادات وسجن وقتل المخالفين وفرض حالات الإقصاء والمركزية الشديدة التي فشلت في إدارة مجتمعاتنا المتنوعة والمتعددة، و كذلك لا يمكننا أن نعالج قضايانا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بالتبعية للمشروعات العالمية والتكتلات الإقليمية أو تجاوز القضايا المصيرية وحالات الاصطفافات التي تترسخ مع فصول الحرب العالمية الثالثة، دون أن يكون لنا قراءة دقيقة علمية ورؤية ومشروع متكامل وتكاملي ووحدوي ديمقراطي بين مجتمعاتنا وشعوبنا وأممنا في الشرق الأوسط، ودون أن يتم حل القضايا المركزية والأساسية العادلة، كالقضية الفلسطينية والقضية الكردية وغيرهما الكثير من القضايا المجتمعية والإنسانية.
وعليه، نعتقد أن العودة للذات المشرقية التنويرية والتجدد المستمر لأبعدانا الفكرية والروحية، مع العلمية المعاصرة والجوهرية المجتمعية والتكاملية الكلياتية الديمقراطية بين مجتمعات وشعوب الشرق الأوسط هو المدخل الصحيح، الذي يمر من بناء الإنسان وحرية المرأة والفهم والسلوك البيئي للحياة، إضافة لبناء تركيبات مجتمعية ديمقراطية وهويات وطنية تتجاوز الأبعاد القومية والدينية والمذهبية والذكورية والمناطقية إلى ذهنيات تشاركية وسلوكيات مجتمعية أخلاقية تكاملية، كالأمة الديمقراطية بدل أمة الدولة القومية والكونفدرالية الديمقراطية لمجتمعات وشعوب المنطقة بدل الهياكل الدولتية السلطوية الفوقية الإقليمية والعالمية ونخبها وبيروقراطيتها البعيدة عن أولويات وأهداف مجتمعاتنا وشعوبنا الأربعة، أما الإصرار على هياكل وأدوات الفشل والقمع كالدولة القومية وأمتها النمطية الدولتية والمركزية الشديدة للإدارة السياسية وسلوكيات الإبادة والتبعية والشرعية الخارجية بدل الشرعية المجتمعية والشعبية، فلا يزيدنا سوى احتراباً وهشاشة وانحداراً وقتلاً لبعضنا وفتح مجتمعاتنا لأكثر ما هو مفتوح أمام الطامعين والمستبدين والمستعمرين وبيع كل ما نملك من موارد وجغرافيات استراتيجية، حتى كرامتنا للأخر، كما هو الموجود في غالبية دول المنطقة التي يتم التلاعب بسلطاتها ومصائرها وعلاقاتها مع أقطاب النظام الرأسمالي العالمي كما يشاء وفق الاستراتيجية المطلوبة.