الرشوة التركية لعمدة نيويورك.. القصة الكاملة

مشاركة

في ديسمبر/ كانون الأول 2016، عقد مستشار الأمن القومي الأميركي، مايكل فلين، اجتماعاً سرياً مع مسؤولين في الحكومة التركية حول خطط تسليم الداعية التركي المتهم بتدبير المحاولة الانقلابية عام 2016 فتح الله غولن.

كان دونالد ترامب قد فاز في الانتخابات الرئاسية 2016، ولم يتسلم فريقه بعد الحكم. ومايكل فلين كان حينها من أبرز شخصيات الإدارة الجديدة بحكم منصبه وخلفيته العسكرية.

عرض المسؤولون الأتراك، من بينهم أقارب لأردوغان، على فلين 15 مليون دولار لتسليم فتح الله غولن إلى الحكومة التركية. فتح المدعي الخاص روبرت مولر تحقيقاً لمعرفة ما إذا كان فلين قد ناقش صفقة ترحيل غولن إلى تركيا، مقابل الحصول على ملايين الدولارات. وفي النهاية أدت القضية إلى الإطاحة بمستشار الأمن القومي.

لم يكن ذلك الفصل الأخير من “الرشاوى” التركية المكشوف عنها. ففي الأسابيع الماضي ظهر إلى العلن قضية عمدة نيويورك والتي انتهت بتوجيه اتهامات فيدرالية له بعد فضيحة الرشوة التركية. فما هي تفاصيلها؟

نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» تحقيقاً عن القضية. وذكرت أن الحكومة التركية كانت متأخرة أساساً سنوات عن الجدول الزمني لبناء برج مكون من 35 طابقاً في مانهاتن عندما واجهت عقبة مع مديرية الإطفاء في مدينة نيويورك. علم المسؤولون الأتراك في عام 2018 أن متطلبات مديرية الإطفاء تغيّرت، وأنهم سيحتاجون إلى تعديل خطط البناء، ما سيكلفهم المزيد من الوقت والمزيد من المال كذلك.

أرسل فيليب إنفيليس، مدير المشروع، بريداً الكترونياً إلى زميل له يقول فيه: «يبدو أن المعنيين في الوزارة (التركية) مندهشين من عدم قدرتك على منح موظفي مديرية الإطفاء في مدينة نيويورك بضع ليرات وإنهاء هذه المشكلة». ظهرت هذه الرسالة في دعوى قضائية رفعتها تركيا عام 2021 بحق المهندس المعماري.

لكن ما يسري في تركيا لا يسري في الولايات المتحدة، كما أوضح إنفيليس، وفقاً لتصريح قدمه العام الماضي. وقال: «كان علينا إبلاغهم أنه ليست هذه الطريقة التي تُعالج بها الأمور في مدينة نيويورك على حد علمنا».

يقول المدعون الفيدراليون إن المسؤولين الأتراك عثروا في نهاية المطاف على شخص آخر لحل مشاكلهم مع مديرية الإطفاء وهو العمدة المقبل.

أواخر الشهر الماضي، وجّهت هيئة محلفين كبرى الاتهام إلى العمدة إريك آدامز بشأن مجموعة من تهم الفساد متعلقة بهدايا يُزعم أنه قبلها من مسؤول تركي ورجال أعمال، بما في ذلك رحلات مجانية على متن شركة طيران تركية وحجوزات في فنادق فاخرة. ويقول المدعون إن آدامز ضغط على مسؤولي مديرية الإطفاء لمنح الموافقة بخصوص سلامة المبنى، على الرغم من مخاوفهم، مقابل الهدايا.

واليوم، من المرجح أن يصبح «البيت التركي» الذي تبلغ تكلفته 300 مليون دولار تقريباً، والذي كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعتزم تحويله إلى تجسيد معماري يجسّد نفوذ بلاده العالمي، جزءاً من دراما قانونية قد تكلف عمدة نيويورك وظيفته وربما مستقبله السياسي.

دفع آدامز ببراءته. قبل أسبوع، طلب محاموه من قاضٍ فيدرالي رفض تهمة الرشوة. قال محاميه أليكس سبيرو في مؤتمر صحافي في ذلك اليوم: «الإكراميات ليست جرائم فيدرالية. المجاملات للسياسيين ليست جرائم فيدرالية». وذكرت وزارة الخارجية التركية أن موظفيها يلتزمون بالقانون الدولي والاتفاقيات الدبلوماسية. وقال المتحدث باسم الوزارة لوكالة أنباء الأناضول الرسمية: «من المحال أن نتدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى».

ذكر المدعون أنه في سبتمبر/أيلول 2021، طلب القنصل العام التركي في نيويورك ريحان أوزغور من آدامز وأحد موظفيه، في مكالمات هاتفية ورسائل إلكترونية، تسهيل افتتاح «البيت التركي» ليتزامن مع خطاب أردوغان أمام الأمم المتحدة. لم يكن آدامز عمدة بعد في ذلك الوقت، لكنه فاز في الانتخابات التمهيدية الديمقراطية، ما يضمن تقريباً فوزه في الانتخابات العامة.

ومع ذلك، رفض مفتش في مديرية الإطفاء التوقيع على الموافقة، مشيراً إلى أكثر من 60 عيباً تتعلق بجاهزية المبنى للحريق. اتصل أوزغور بأحد موظفي آدامز وقال «إن الوقت حان» لدعم تركيا، وفقاً للائحة الاتهام. وتم نقل الرسالة إلى آدامز.

أجاب آدامز، وفقاً للائحة الاتهام، «أعلم ذلك». وقال ممثلو الادعاء إنه ضغط على مديرية الإطفاء لإصدار استثناء. وبعد أيام، حصل المسؤولون الأتراك على ما أرادوه: افتتح البرج مع وصول أردوغان. وفي حفل قص الشريط، قال أردوغان إن البناء يعكس «عظمة» شعبه و«إرثه وقوته المتنامية».

طفقت مشاريع البناء التي كان وراءها أردوغان، بما في ذلك أكبر مسجد في بلاده، في تحويل إسطنبول (معمارياً) في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وقال مسؤولون أتراك سابقون إنه لم يكن هناك سوى أماكن معدودة في الخارج، مثل نيويورك، تصلح لإظهار القوة بحسب ما أراد أردوغان، خاصة أن المدينة الأميركية مركز مالي ومعقل الدبلوماسية الدولية.

منذ أواخر السبعينيات، خدم «المركز التركي»، وهو مبنى مكاتب باهت مكون من 11 طابقاً يقع بالقرب من الجادة الأولى من الأمم المتحدة، كقنصلية تركيا في مدينة نيويورك وبعثة الأمم المتحدة. لم يتعرض المبنى، الذي تم شراؤه من شركة «آي بي إم» إلى أضرار حينما انفجرت قنبلة بهجوم إرهابي عام 1980. ولكن في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شعر الأتراك بشكل متزايد أنهم بحاجة إلى بناء مبنى جديد.

يتذكر فاروق لوج أوغلو، الدبلوماسي التركي السابق والعضو السابق في برلمان بلاده: «كان السجاد ممزقاً بعض الشيء، ولم يكن الأثاث في حالة جيدة تماماً».

وظهرت خطة طموحة تتمثل في هدم المركز التركي القديم ومبنى مجاور واستبدالهما ببرج زجاجي أعلى بثلاث مرات يطل على الأمم المتحدة، وهو مخطط اعتقد رئيس الوزراء والرئيس المستقبلي أردوغان أن إمكانه إبراز نفوذ بلاده المتزايد على الساحة الدولية.
كان من المفترض أن يستغرق الأمر ثلاث سنوات. ثم ما لبث أن تحول بناؤه إلى خطة تعتريها المشاكل استمرت لمدة عقد تقريباً.

موعد نهائي رئاسي

في عام 2012، تعاقدت تركيا مع شركة «كريسا»، التي تتخذ من شيكاغو مقراً لها، للإشراف على هدم المباني القائمة وبناء المبنى الجديد. ووقعت شركة «بيركنز إيستمان» للهندسة المعمارية، التي تتخذ من نيويورك مقراً لها، على عقد التصميم.

تظهر الرسومات التي أعدتها «بيركنز إيستمان» واجهة منحنية مستوحاة من الهلال في وسط العلم التركي. وتضمن التصميم أنماطاً مزخرفة تشبه تلك الموجودة في الخانات، على أن تشغل مكاتب القنصلية والشركات التركية البرج، إلى جانب 20 وحدة سكنية للموظفين الدبلوماسيين ومركز للياقة البدنية وشرفات خارجية وقاعة محاضرات وغرفة صلاة.

وسرعان ما تعطل المشروع وارتفعت التكاليف. وتم إخلاء القنصلية التركية عام 2013 من أجل المشروع الجديد، ما أجبر الدبلوماسيين الأتراك على العمل من مبنى مستأجر في وسط مانهاتن، وهو الأمر الذي كلّف الدولة التركية خمسة ملايين دولار سنوياً. ومع ذلك، لم تبدأ أعمال الهدم.

وكتب لوج أوغلو، الذي أصبح معارضاً، في اقتراح برلماني في 2015 إن «حالة عدم اليقين المستمرة بشأن مشروع البيت التركي تزيد من تكاليف المشروع فضلاً عن إضرارها بسمعة تركيا في الولايات المتحدة».

في 2016، هددت شركة «كريسا» بالانسحاب من المشروع بعد انتهاء العقد، وفقاً لدعوى قضائية رفعتها تركيا ضد الشركة في ذلك الوقت. لكن ما لبثت «كريسا» وتركيا أن توصلتا إلى تفاهم، وبدأت أعمال الهدم في العام التالي.
كان سير العمل أبطأ بكثير مما كان متصوراً. بحلول بداية عام 2021، تم منح طاقم البناء موعداً نهائياً ثابتاً: «كل شيء يجب أن يتم بحلول اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر من ذلك العام». قال إنفيليس في إفادة عام 2023 أن الأمر جاء من أردوغان نفسه. وأضاف أن طاقم البناء قدّر في البداية أنه يتوجب ضخ بضعة ملايين من الدولارات فحسب للحاق بالموعد النهائي. ولكن الزيادات في التكاليف أتت أيضاً من شركة «آي سي إكتاس» التركية، والتي تولت أعمال البناء بالشراكة مع شركة «آيكوم تيشمان» الأميركية، وفقاً لشهادات إنفيليس وموظف آخر في شركة «كريسا».

أشرفت «آي سي إكتاس»، المملوكة لرجل الأعمال التركي إبراهيم جيجن، على بعض المشاريع الحكومية البارزة في تركيا، بما في ذلك محطة للطاقة النووية وجسر ضخم عبر مضيق البوسفور.

تم تعديل التصميم الأصلي من أجل خلق مساحة أكبر لأقسام تخزين المعدات ومصعد المركبات. قال إنفيليس وموظف «كريسا» الآخر في شهادتيهما إنهما أعربا عن مخاوفهما للمسؤولين الأتراك من أن «آي سي إكتاس» و«آيكوم» كانتا تفرضان هامش ربح كبيراً بشكل غير عادي على التغييرات التي طرأت على خطة البناء.

وقال موظفا «كريسا» في شهادتيهما إن المسؤولين الأتراك لم يرفضوا التعديلات أو الرسوم الإضافية. وفي وقت لاحق، ألقت تركيا باللوم في بعض التكاليف الإضافية على المهندس المعماري بيركنز إيستمان، ورفعت بحقه دعوى قضائية بعد اكتمال أعمال البناء. ونفى بيركنز إيستمان مزاعم أنقرة.

في عام 2015، اتصل المسؤولون الأتراك برئيس البلدية المنتظر لأول مرة بعد عام من انتخابه رئيساً لمنطقة بروكلين. وذكر ممثلو الادعاء أن آدمز قام برحلتين إلى تركيا في ذلك العام، تم دفع ثمن إحداهما من قبل القنصلية التركية في نيويورك وتكتل تعليمي مقره اسطنبول. التقى آدمز بمدير عام فرع شركة الخطوط التركية في نيويورك، المملوكة جزئياً للحكومة، وتلقى منه مزايا سفر فاخرة لسنوات، وفقاً للائحة الاتهام.

قال آدمز لاحقاً في مقابلة مع موقع إخباري تركي: «الخطوط الجوية التركية هي خياري في الطيران».

كان ذلك بداية علاقة استمرت ما يقارب العقد، حيث يُزعم أن آدمز تلقى هدايا تزيد قيمتها عن 100 ألف دولار، بما في ذلك الإقامة في أجنحة فندقية فاخرة ومنتجع ساحلي، والسفر على متن طائرة من درجة رجال الأعمال، وجولة باليخوت وسيارة شخصية وسائق أثناء وجوده في تركيا.

في صيف عام 2017، قام آدمز بجولات في فرنسا والصين وتركيا، تخللتها إقامة في «جناح بنتلي» في فندق «سانت ريجيس» في اسطنبول. وقدّر ممثلو الادعاء قيمة تلك الرحلات وحدها بأكثر من 41 ألف دولار. كما ذكروا أن آدمز تلقى تبرعات غير قانونية لحملته من رجال أعمال أتراك سعوا إلى الاستفادة من قوته السياسية المتنامية.
«صديق حقيقي لتركيا».

بحلول عام 2021، تم حل جميع المشاكل المتعلقة بتشييد «البيت التركي» باستثناء مشكلة واحدة: الحصول على موافقة مديرية الإطفاء.

بحلول سبتمبر/أيلول، حدد المفتشون أكثر من 60 عيباً في جاهزية البرج للحرائق، بما في ذلك الأنظمة التي تنبه فرق الطوارئ إلى مخاطر الحرائق وتغلق المراوح في حالة اندلاع حريق. قبل عقود، أدى حريق في فندق وكازينو «إم جي إم غراند» إلى مقتل 87 شخصاً. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أعطال المراوح التي نقلت الأبخرة السامة إلى الطوابق العليا.

كتب أحد موظفي مديرية الإطفاء في مدينة نيويورك المكلّف تفتيش نظام إنذار الحرائق إلى رئيس الوقاية من الحرائق في المدينة في 9 سبتمبر/أيلول، قبل أقل من أسبوعين من الموعد النهائي الذي حدده أردوغان لافتتاح المبنى: «لا أرى إمكانية لقبول الأمر».

في اليوم التالي، وفقاً للائحة الاتهام، أرسل آدمز رسالة إلى مفوض مديرية الإطفاء بشأن المشاكل التي تواجه تركيا في الحصول على الموافقة النهائية.

وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، أبلغ ضابط الشرطة الأعلى في القسم مسؤولاً آخر رفيع المستوى، وهو رئيس الوقاية من الحرائق، أنهما إن لم يساعدا الحكومة التركية فسوف يفقدان وظيفتيهما، وفقاً للائحة الاتهام، فقامت مديرية الإطفاء بتمرير الوثائق اللازمة، لينقل آدامز الأخبار السارة إلى القنصل العام التركي بأن المبنى بات جاهزاً للافتتاح.
ورد في لائحة الاتهام أن أوزغور رد في رسالة نصية تضمنت رمزين تعبيريين ليدين مطويتين: «أنت صديق حقيقي لتركيا».

ومع ذلك، لم تعجب تكلفة المشروع التي بلغت نحو 300 مليون دولار تركيا، لترفع على إثرها دعوى قضائية بحق «بيركنز إيستمان»، زاعمة أن أعمال التصميم الرديئة التي قامت بها أدت إلى تأخيرات و13 مليون دولار إضافية على الأقل.
ونفت شركة الهندسة المعمارية هذا الادعاء. وعندما طلبت من الحكومة التركية تقديم وثائق تدعم مزاعمها، رفضت الأخيرة وتحدثت عن «امتيازات وحصانات قنصلية». وقالت إن لدى «كريسا» جميع الوثائق ذات الصلة.
وفي إفاداتهم اللاحقة، قال موظفو «كريسا» إن بعض القرارات المتعلقة بمراجعات بخصوص البناء اتُخذت خلال اجتماعات مع مسؤولين أتراك في أنقرة. وأسقطت تركيا دعواها القضائية في وقت سابق من هذا العام.
قبل أيام من الافتتاح الكبير لـ«البيت التركي» في 20 سبتمبر/أيلول، طلب العمدة من أحد مساعديه ترتيب رحلة إلى باكستان.

قال المساعد لمدير الخطوط الجوية التركية: «سيدفع سعر الدرجة السياحية»، وفقاً للمدعين العامين، :«هل يمكننا الترقية (من الدرجة السياحية) لاحقاً؟». أجاب مدير الخطوط الجوية: «بالطبع».

المصدر: المركز الكردي للدراسات