مجموع

عامٌ على سقوط الطغيان

مشاركة

بقلم: خالد حسو

مرَّ عامٌ كامل على ذلك اليوم الذي اهتزّت فيه سوريا من أقصاها إلى أقصاها؛ اليوم الذي سقطت فيه منظومة آل الأسد التي كبّلت البلاد لأكثر من خمسة عقود. كان يومًا أشبه بزلزالٍ سياسيٍّ عاصف، انشقّت فيه جدران الصمت، وتحطّم فيه أحد أشدّ الأنظمة الأمنية قمعًا في تاريخ المنطقة. لم يكن سقوطه حدثًا عابرًا، بل لحظة انفجارٍ هائل تحرّرت فيها الأنفاس المكبوتة، وخرج السوريون ليقولوا بصوت واحد: لقد انتهى زمن الاستبداد.

لقد حكم آل الأسد سوريا بقبضةٍ حديدية تخنق الهواء وتُطفئ الأمل. بنوا دولةً ترتكز على الخوف لا على القانون، وعلى الأجهزة الأمنية لا على المؤسسات، وعلى تقديس الفرد لا على احترام الإنسان. تحوّلت البلاد إلى مساحةٍ تُحرق فيها الأرض حين تتمرّد، ويُسجن الحجر قبل البشر، ويُقتل الحلم قبل أن يولد.

كانت السجون أوطانًا بديلة، وأقبية التعذيب مدارسَ للإذلال، والولاء للحاكم معيارًا للمواطنة والبقاء. توسّع القمع حتى أصبح جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية: الاعتقال، الإخفاء القسري، محاكم الميدان، الاغتيال السياسي، مصادرة الرأي، وتطييف المجتمع لكسره من الداخل.

ومع سقوط النظام، ظهرت الحقيقة العارية: وطنٌ جريح، منهك، مستنزف، يحمل آثار نصف قرن من القهر، وشعبٌ دفع أغلى الأثمان في سبيل حريته وكرامته.

واليوم، بعد عام على ذلك السقوط، ما يزال الطريق طويلًا. نعم، انهار النظام وتفكّكت مؤسساته القمعية، وسقط حزب البعث الذي جعل من نفسه وصيًا على التاريخ والجغرافيا والهوية، وفرّ الطاغية بشار الأسد تاركًا خلفه إرثًا من الموت والدمار والتهجير. لكنّ أحلام الشعب لم تتحقق بعد، وما تزال الجراح تبحث عن العدالة، والأهداف التي خرج الناس من أجلها تنتظر وطنًا يستحقها.

نريد سوريا جديدة بحق.
نريد وطنًا ينهض من الركام، يبنيه جميع أبنائه دون إقصاء أو تمييز. وطنًا يحكمه القانون لا الأجهزة، والعدالة لا الفساد، والحرية لا الخوف.

نريد وطنًا يحمي الإنسان قبل أي شيء، ويصون كرامته، ويضمن المساواة لجميع مواطنيه.
نريد وطنًا يُقدّس حقوق المرأة ويحميها من التمييز والعنف، ويضمن لها المشاركة الكاملة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ونريد وطنًا يصون حقوق الطفل، ويكفل له التعليم والصحة والأمان، وينشئ جيلاً لا يعرف الخوف ولا يحمل جراح الحروب في ذاكرته.

نريد دولةً مدنية ديمقراطية تُبنى على قيم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين، وميثاق الأمم المتحدة، وعلى مبادئ القانون الدولي التي تحمي الشعوب من الطغيان وتمنحها الحق في تقرير مصيرها. دولة تؤمن بأن المواطنة حقوق وواجبات، لا هبة من حاكم ولا منحة من سلطة.

نريد وطنًا يتّسع للجميع:
للكورد والعرب، للعلويين والسنة والشيعة، للدروز والإسماعيليين، للإيزيديين والمسيحيين واليهود، ولكل مكوّنٍ ساهم في تاريخ البلاد وحضارتها. وطنًا يعترف بالتنوّع كقوة، لا كخطر.

نريد دستورًا يعترف بكرامة كل فرد، وبحقوق كل قومية وشعب. دستورًا يضمن شراكةً فعلية بين كل المكونات، ويؤسس لدولة العدالة والمساواة.

ونريد فوق ذلك كله اعترافًا واضحًا وصريحًا بالوجود الكوردي، وبالقومية الكوردية، وبحق الشعب الكوردي في تقرير مصيره أسوةً بسائر الأمم والشعوب.
لا يمكن لسوريا المستقبل أن تقوم دون الاعتراف بهذه الحقيقة التاريخية والإنسانية والقانونية.

ومن أجل ذلك، نؤمن بأن الفيدرالية الديمقراطية هي الطريق الأمثل لبناء سوريا جديدة، موحدة بالتنوع، قوية بشراكة شعوبها، عادلة في توزيع السلطة والثروة، قائمة على اللامركزية، وعلى احترام إرادة المكوّنات كافة.
فيدرالية تحفظ وحدة البلاد، وتمنع عودة الاستبداد، وتضمن إدارة عادلة للمناطق، وبناء مؤسسات مستقلة، وتمثيلًا حقيقيًا لكل شعب ضمن إطار سوريا ديمقراطية تعددية.

إن مشروع الفيدرالية ليس تقسيمًا، كما حاول الطغاة تصويره، بل هو الضمانة الأكثر نضجًا للأمن والسلام والعيش المشترك.
هو الطريق نحو سوريا آمنة، مستقرة، مزدهرة، تحترم حقوق الإنسان وتفتح أبوابها لكل مكوّنٍ دون خوف أو تمييز.

نريد حوارًا وطنيًا شاملًا يكتب مستقبل سوريا الجديدة، دون إقصاء أو تخوين أو استعلاء.
نريد شراكةً كاملة في بناء الدولة القادمة، دولة تنتمي لشعبها لا لحاكم، لوطنها لا لعائلة، للمستقبل لا للطغيان.

هذا حقّنا… وهذا واجبنا… وهذه مسؤوليتنا أمام وطنٍ يستحق الحياة، وأمام شعبٍ قدّم أغلى التضحيات في سبيل الحرية والكرامة والسلام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى