بعد أيامٍ قليلة من إعلان ما يُسمّى بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” تعيين خليفة جديد يُكنّى بـ”أبو حفص الهاشمي”، قام التنظيم بتنفيذ عملية نوعية في دير الزور، هي الأكثر دموية بين عملياته ربما خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، منذ أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، سقوط دولته في 22 آذار (مارس) من العام 2019.
“داعش” لم ينتهِ حتى نتحدث عن عودته من جديد مع العملية النوعية الأخيرة! وأي تقارير تتحدث عن عودة التنظيم للمشهد الجهادي غير دقيقة، ولا تصف الواقع المؤلم لنشاط التنظيم الأكثر تطرّفاً. “داعش” موجود منذ الإعلان عن سقوط دولته، فهناك من يُغذّي هذا الوجود، وبالتالي العودة التي يتحدث عنها البعض قد تكون عبثاً، فالتنظيم ما زال مليء السمع والبصر وخطره لم يبتعد كثيراً عن الأراضي التي سبق وسيطر عليها في منطقة الشرق الأوسط في 29 حزيران (يونيو) من العام 2014.
قُتل 4 خلفاء لتنظيم “داعش” في 4 سنوات، آخر ثلاثة من هؤلاء الخلفاء قُتلوا ما بين عامي 2022 و 2023، بينما قُتل الخليفة الأول الملقّب بأبو بكر البغدادي في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2019. عمليات التصفية هذه قد تُشير إلى ضعف التنظيم، وقد تنعكس على أدائه العسكري، لكن لا يمكن الاستشهاد بها على وفاة التنظيم، ولعلّ العمليات النوعية الأخيرة دليل قوة التنظيم وليس ضعفه.
نجح الخليفة أبو الحسين الحسيني القرشي، المقتول في نيسان (إبريل) عام 2023 قي التخطيط للإغارة على سجن غويران في الشمال السوري العام 2022، والذي راح ضحيته قرابة 150 من حرّاس السجن من القوات الكردية التي لم تنجح في السيطرة على السجن المُقتحم إلاّ بعد أيام عدة، وهو ما يدل إلى قوة هؤلاء المتطرّفين وحُسن تخطيطهم حتى وهم سجناء وضعف حرّاسهم، وهم يمتلكون الأسلحة الثقيلة والخفيفة، فلا يوجد ما يمنع من تكرار هذا الاقتحام ولا في نجاح أي اقتحامات مقبلة.
اعترف بعض سجناء “داعش” بأنّهم كانوا يُخطّطون للهروب من سجن غويران، ولكن قوات شمال شرق سوريا لم تُقدّر التهديد وربما اعتبرته جزءاً من استراتيجية “داعش” التي لا يمكن أن يحققها؛ ففاجأ التنظيم الجميع، حيث تمكن سجناؤه من الهرب، كما تمكنوا من ذبح حرّاسهم في مشهد مأسوي أثبت قوة التنظيم التي ينكرها البعض من باب دفن الرأس في الرمال، كما أثبت ضعف قوات الحماية الكردية المعنية بحراسة السجون التي يتواجد فيها “الدواعش”.
ما فعله الخليفة السابق والأسبق من تفجيرات سواء في العراق وتحديداً في قلب العاصمة بغداد أو في البادية السورية، يدل إلى أنّ كل قيادي يأتي على خلافة التنظيم يُحدث حالة نوعية في شكل وطبيعة العمليات التي تنفّذها خلايا التنظيم النشطة أو الخاملة، والتي بدأت تتحرّك بشكل تكتيكي مرتّب له.
وهنا يمكن الحكم على العملية الأخيرة للتنظيم مساء الخميس قبل الماضي الموافق 10 آب (أغسطس) الجاري من هذه الزاوية، فهذه العملية لم تكن الأولى في آب (أغسطس) الجاري، ولكنها العملية الثالثة والتي نجح التنظيم في تصفية قرابة 33 جندياً كانوا يستقلّون حافلة تحمل جنوداً للجيش العربي السوري.
الغريب أنّ الحافلة العسكرية خلت من أي أسلحة لتأمين هؤلاء الجنود، وكأنّها كانت إهداءً لـ”داعش”، وهو ما يؤكّد أنّ التنظيم يمتلك جهاز استخبارات يتيح له المعلومات التي تمكّنه من الإغارة، فيرتكب من ورائها فظائع دموية قد يراها البعض أكبر من قدراته العسكرية مع استهداف قادته، وقد يكون هذا الجهاز سبب تقدّمه العسكري في المستقبل.
أعلن “داعش” مقتل الخليفة، أبو الحسين الحسيني القرشي (المجهول) حتى قام بتعيين خليفة آخر مجهول وهو أبو حفص الهاشمي؛ فهكذا يُدير التنظيم عملياته العسكرية، قائد مجهول يتسلّم القيادة من قائد آخر مجهول، ولكن لكل قائد من قيادات التنظيم المجهولين الذين أتوا بعد إبراهيم عواد إبراهيم علي البدري السامرائي والمكنى بأبو بكر البغدادي، استراتيجيته العسكرية الخاصة به.
هذه الاستراتيجية ظهرت مع كل خلفاء التنظيم بدءاً من أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، والذي يُعتقد أنّه لشخص يُدعى حجي عبد الله قرداش، والمقتول في مدينة إدلب السورية في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2019، ومروراً بأبو الحسين الهاشمي القرشي، والذي يُعتقد أنّه لشخص يُدعى عبد الرحمن العراقي أو سيف بغداد، كما يسمّيه البعض والمقتول في درعا في جنوب سوريا في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2022، وانتهاء بالخليفة الرابع للتنظيم والمكنّى بأبو الحسين الحسيني القرشي، المقتول في نيسان (إبريل) من العام 2023، والذي لم تتعرف أجهزة الاستخبارات العالمية إلى شخصيته الحقيقية.
تقوم استراتيجية الخليفة الجديد لـ”داعش” على تنفيذ عمليات خاطفة يتمّ التخطيط لها وفق معلومات استخباراتية تمكّنها من تنفيذ عمليات ذات أثر نوعي، حتى تستطيع إجهاد قوات الأمن المحلية والدولية التي باتت منشغلة بصراعها بالحرب الأوكرانية في شرق القارة الأوروبية.
يستهدف الخليفة الجديد هروب سجناء “داعش” البالغ عددهم قرابة 11 ألفاً، موزعين بين عدد من السجون غير المؤهّلة وغير المؤمّنه بالشكل الكافي في الشمال السوري، كما يستهدف الخليفة الجديد وفق مساجلات تمّ إرسالها عبر المواقع المشفّرة بين قيادات التنظيم، في هروب قرابة 55 ألفاً من عوائل التنظيم في مخيمي الهول وروج.
يقوم الخليفة الجديد للتنظيم بتوظيف القدرات والخبرات العسكرية مع الموقع الجغرافي في البادية السورية، والتي تبلغ مساحتها قرابة 200 كيلومتر مع ظهير صحراوي كبير في الأراضي العراقية بهدف الانتشار والتمدّد مع الابتعاد عن التجمّعات الكبيرة، خشية الاستهداف الجوي عبر الضربات الصاروخية.
خليفة “داعش” الجديد يستغلّ الظرف الدولي والصراع الدائر بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وانتقال هذا الصراع إلى أوكرانيا، ما أدّى إلى تخفيض عدد القوات الروسية في سوريا بهدف تعزيز وجوده وقوته، وتقليل الهجمات التي كان يشنّها التحالف الدولي، فأميركا تركّز على تجيير قوتها لدعم القوات الأوكرانية في مواجهة روسيا، وهو ما تتنبّه إليه “داعش” وتعمل عليه في ظلّ وجود الخليفة الجديد للتنظيم.
هناك اتجاه لدى بعض الأطراف الدولية إلى إعادة توظيف “داعش” في الصراع الدائر بينها حالياً، ولذلك أخذ التنظيم مساحةً أكبر في الصراع الدائر في شرق أوروبا وغرب إفريقيا؛ هذه المساحة سوف تزداد بصورة أكبر خلال الفترة المقبلة، ومعها سوف يزداد تهديد التنظيم وسوف يتمدّد بصورة تبدو ملحوظة في مناطق كثيرة، ربما لم يصل إليها في تجربته الأولى عندما أقام دولته قبل 10 سنوات.