مجموعمقالات

قسد تفجّر الصراع التركي–الأمريكي على سوريا

مشاركة

منذ فشل رجب طيب أردوغان في انتزاع موافقة البيت الأبيض خلال لقائه الأخير مع دونالد ترامب، وهو يحاول الالتفاف على الحقائق الميدانية والسياسية في سوريا عبر طرقٍ ملتوية، لم يظفر الرجل بما حصل عليه عام 2019 حين منحته واشنطن الضوء الأخضر لشنّ هجومٍ على قوات سوريا الديمقراطية، البوابة التي يراها وسيلته للقضاء على قوات قسد، ومن ثمّ على الإدارة الذاتية وتهميش القضية الكوردية، فلجأ هذه المرة إلى حيلةٍ سياسية عبر ما يُسمّى بـ«الحكومة السورية الانتقالية»، أي حكومة الجولاني التي تدور في الفلك التركي، لتصبح أداة بيد أنقرة في إعادة هندسة المشهد السوري.

من هناك بدأت أنقرة تحرّك خيوطها من وراء الستار، محاوِلةً إقناع المبعوث الأمريكي إلى سوريا، توماس باراك، بخوض حراكٍ دبلوماسيٍ مبطّن يخدم مصالحها دون أن تظهر في الواجهة.

في لقائه الأخير بالبيت الأبيض، الذي مهد لما يجري اليوم بين قوات قسد والحكومة الانتقالية بضغطٍ أمريكي غير مباشر، قدّم أردوغان حزمة من التنازلات الاقتصادية والسياسية: من صفقات الغاز الأمريكي المسال إلى عقود الأسلحة التي تجاوزت ثمانيةً وثلاثين مليار دولار، مرورًا بطلبية ضخمة من طائرات بوينغ وصفقة محتملة لطائرات F-16.

ومع ذلك ظلّ الملف الأكثر حساسية، عودة أنقرة إلى برنامج الـ F-35 قيد النقاش دون أي التزام أمريكي نهائي. وفي المقابل، عززت واشنطن واردات الغاز الأمريكي إلى تركيا، بينما واصلت أنقرة اللعب عبر قنواتها غير المباشرة وأذرعها المحلية، لتثبيت نفوذها في مساحةٍ تمارس فيها الولايات المتحدة حساباتها الأمنية المعقدة بدقةٍ شديدة.

داخل إدارة ترامب نفسها، كان الصراع بين تيارين متوازيين: أحدهما يؤمن بأن مستقبل أمريكا يُبنى عبر الاقتصاد والتجارة، والآخر يرى في القوة العسكرية والدبلوماسية التقليدية أساس الهيمنة الأمريكية، ومن هذا التباين، وُلد التفاهم بين التيارين في لقاءٍ جمع المبعوث الأمريكي توماس باراك مع الأدميرال براد كوبر، قائد القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM)، في اجتماعٍ مع القائد العام لقوات قسد، مظلوم عبدي، الهدف المعلن كان “تشجيع الحوار” مع رئيس الحكومة الانتقالية أحمد الشرع، لكن التفاصيل التي رشحت عن اللقاء كشفت المضمون الحقيقي للموقف الأمريكي: فإشراف الأدميرال كوبر المباشر وغياب باراك عن الجزء الحاسم من الحوار يؤكدان أن دعم واشنطن لقوات قسد خيارٌ استراتيجي ثابت، وأن مشروع دمجها في ما يُسمّى بـ“الجيش الوطني” الموالي لتركيا مجرد وهم سياسي.

فقسد بالنسبة لواشنطن ليست مجرد شريكٍ عسكري، بل ركيزة مركزية في معادلة الأمن الإقليمي، من الحرب على الإرهاب إلى حماية الأمن الأمريكي والإسرائيلي والأوروبي، وهي في الوقت ذاته الضامن لاستمرار الإدارة الذاتية، وحاضنة للحراك الكوردي الساعي إلى اعترافٍ دستوريٍ بالشعب الكوردي ضمن نظامٍ لا مركزيٍ عادل. وهذا تحديدًا ما يُثير فزع أنقرة.

أما “الحكومة السورية الانتقالية”، فليست سوى نسخةٍ معدّلةٍ من النظام البعثي القديم، غيّرت الشعارات وبقي الجوهر كما هو، خضوعٌ تامّ لأنقرة، تمامًا كما كان الأسد المجرم يركع لإيران، الدليل واضح في تجاهلها الكامل لذكر الكورد في مسودة الدستور، وفي امتناعها عن أي حوارٍ جادٍّ مع الحراك الكوردي، وفي إلغائها لعيد نوروز من قائمة الأعياد الوطنية، استنساخًا لسياسات البعث ومفاهيمه الإقصائية. هكذا تكرّس هذه الحكومة فكرة أن “التعدد خطر، والكوردي تهديد للوحدة الوطنية”.

تلك الذهنية المترسخة في عمق العقل السياسي التركي والعقائدي للجولاني وحكومته جعلت أنقرة في حالة ذعرٍ من الحوارات الجارية بين قيادة قسد وحكومة دمشق برعايةٍ أمريكية.

فتركيا تخشى الفيدرالية أكثر من خوفها من التقسيم، لأنها تدرك أن قيام نظامٍ لا مركزي في سوريا سيُحدث زلزالًا سياسيًا يهز أسس “الدولة القومية الواحدة” في الداخل التركي ذاته.

لذلك سارعت إلى دعوة وزير خارجية دمشق أسعد الشيباني إلى أنقرة في اليوم نفسه الذي انعقد فيه الحوار، محاولةً الظهور بمظهر الوسيط، بينما كانت في الواقع تمارس وصايةً علنية على سوريا، كأنها ولاية عثمانية أُعيد إحياؤها بغطاءٍ دبلوماسي.

تعرف أنقرة اليوم أن واشنطن لن تتخلى عن قوات قسد، وأن هذا الثبات يعني أن القضية الكوردية تتجه نحو حلٍّ جديدٍ يتناغم مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية، ويُمهّد لواقعٍ فيدراليٍ على نسق إقليم جنوب كوردستان، أما تصريحات المبعوث الأمريكي التي تتأرجح بين التهدئة وإرضاء تركيا، فهي لا تغيّر في جوهر المعادلة شيئًا، لأن واشنطن باتت ترى في قسد شريكًا استراتيجيًا لا يمكن التفريط به، من هنا، يصبح المطلوب من الحراك الكوردي والإدارة الذاتية هو التمسك بالبعد الوطني القائم على الفيدرالية واللامركزية، لا بوصفهما مطلبًا كورديًا، بل كضمانٍ لبقاء سوريا دولةً موحدةً وعادلة، وقد طُرح بالفعل في اللقاء الأخير بحضور الأدميرال كوبر نموذج جنوب كوردستان كصيغةٍ قابلةٍ للتطبيق في سوريا المستقبل.

ولن يكون مفاجئًا إن اقتنع توماس باراك لاحقًا بأن استقرار سوريا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر نظامٍ فيدراليٍ تعدديٍّ يعترف بجميع مكوناتها، وفي مقدمتهم الشعب الكوردي.

أما استمرار الحكومة الانتقالية تحت الإملاءات التركية، فسيقود حتمًا إلى التقسيم، لا الجغرافي فقط، بل الأخلاقي والسياسي، لتتحول سوريا إلى ساحة نفوذٍ مفتوحةٍ لمطامع أردوغان العثمانية الجديدة، التي تُبرر الاحتلال بشعار “حماية الأمن القومي”.

.لقد آن لواشنطن، وبشكل خاص لمبعوثها إلى سوريا، أن تدرك أن كورد سوريا لم يعودوا ورقة تفاوضٍ عابرة، بل حقيقة جيوسياسية راسخة في الشرق الأوسط الجديد، فالقوة التي واجهت داعش وحمت التعدد السوري في أقسى مراحل الفوضى، لا يمكن اختزالها في مقايضاتٍ تكتيكية لإرضاء أنقرة أو طمأنتها.

أما تركيا التي تخاف من فيدراليةٍ في سوريا لأنها ترى فيها مرآة لخللها البنيوي، فهي اليوم تتخبط بين وهم القوة وهاجس التفكك.إن مستقبل سوريا والمنطقة لن يُرسم في مكاتب المخابرات التركية، ولا في خُطب الجولاني، بل في إرادة الشعوب التي دفعت ثمن حريتها بالدم، والكورد، الذين حُرموا قرونًا من وطنٍ يعترف بهم، لن يقبلوا بعد اليوم أن يكونوا تابعين في وطنٍ يُعاد رسم تاريخه من جديد. فالتاريخ لا يعود إلى الوراء، ومن لا يعترف بحق الكورد في الحياة الحرة، سيلتحق بركام الأنظمة التي ظنّت أن إنكار الشعوب يُطيل عمر الاستبداد، لكنه في النهاية، يُسرّع سقوطه

.د. محمود عباسالولايات المتحدة الأمريكية8 / 10 / 2025م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى