crossorigin="anonymous"> توماس باراك وسرّ الشرق الأوسط المؤجّل – xeber24.net

توماس باراك وسرّ الشرق الأوسط المؤجّل

مشاركة

1/2
ليست تصريحات توماس باراك، المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، مجرد ارتجالات دبلوماسية عابرة، فالرجل، الذي ظل لفترة يراوغ الكلام ويؤجل الإفصاح، بدأ الآن يكشف تدريجيًا عن خيوط الاستراتيجية الأمريكية طويلة النفس في الشرق الأوسط، وخاصة في الملف السوري، والقضية الكوردية، والعلاقة المركبة بين الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والحكومة السورية الانتقالية.

لم يكن تأجيل الإفصاح عن هذا المخطط اعتباطًا، فواشنطن، كما يبدو، اختارت أن تؤخّر المواجهة مع بعض الفاعلين الإقليميين، وعلى رأسهم تركيا، إلى ما بعد حسم ملفات أكثر استعجالًا، إيران وأذرعها، وترتيب التوازن داخل العراق ولبنان، وهذا التأجيل لم يكن ضعفًا، بل كان ضرورة تكتيكية، تهدف إلى امتصاص التصعيد التركي، وإلهاء أنقرة عبر قنوات تفاهم وهمية، ريثما يتم تثبيت المشهد النهائي الذي تريده واشنطن، لا المشهد الذي تحاول تركيا فرضه كأمر واقع.

تركيا، بدورها، لم تكن ساذجة أمام هذا التأجيل الأمريكي، بل تحركت بخبث سياسي، مدفوعة بهاجس خسارة نفوذها، لتدفع نحو مشاريع “التتريك الإداري”، وخلق منظومات اقتصادية وتعليمية وأمنية موازية داخل الشمال السوري، محاولة السيطرة على سوريا من البوابة السنية الراديكالية، وإعادة تدوير المجاميع المتطرفة لتكون حكومة ظل، جاهزة للعرض في حال قايضها المجتمع الدولي على حساب الكورد أو الفيدرالية، هذه الحكومة، إن أُقرّت يومًا، لن تكون سوى كابوس جديد على المنطقة، وتهديد مباشر لأمن إسرائيل، ومن خلفها أمن الولايات المتحدة والتحالف الأوروبي.
هذا ما دفع الولايات المتحدة إلى تحريك القضية الكوردية مجددًا، ووضع صراع حزب العمال الكوردستاني مع الحكومة التركية في صدارة المشهد، ضمن إطار أوسع لمعادلة “السلام الإقليمي” في الشرق الأوسط. غير أن تركيا أدركت سريعًا أن الأمر لا يتعلق بعملية سلام تقليدية، بل بانخراطها القسري في مخطط جيواستراتيجي يعيد رسم خرائط النفوذ والمراكز، وجيوسياسي يعيد رسم خريطة سايكس بيكو.
ولتفادي موجة التغيير القادمة، سارعت أنقرة إلى تسريع العمل على ملف التفاوض المباشر وغير المباشر مع القائد عبدالله أوجلان، عبر وفد من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب (دام بارتي)، وبمشاركة البرلمان التركي، ممثلاً بنائبته پروين بولدان، وتشير المعلومات إلى أن لجنة برلمانية خاصة ستُشكّل لمراجعة الدستور ومعالجة قضايا محورية، في محاولة لامتصاص الضغوط الداخلية والخارجية، وقطع الطريق على السيناريوهات الكبرى التي بدأت تطرق أبواب تركيا، والتي لن تنتظر طويلاً قبل أن تُصبح واقعًا مفروضًا.

وما يُقال بأن الدعم الأمريكي لقوات قسد هدفه “إحداث تغيير داخلي” في بنيتها أو في قياداتها، لا يعدو كونه قراءة سطحية تنم عن قصور في فهم بنية التحالفات الاستراتيجية، فقسد، كما أكدت مرارًا الدوائر الأمريكية، هي الشريك الميداني الأكثر موثوقية في سوريا، وهي اليوم الحاضن الأكثر تماسكًا لمفهوم سوريا المستقبل، بعيدًا عن ثنائية السلطة والمعارضة المتهافتة، إن ثبات التحالف مع قسد لا يعني فقط دعمًا عسكريًا، بل هو رسالة إلى الداخل السوري، بأن السلطة الشرعية القادمة لن تُفرض من منابر المتطرفين ومنظمات الإسلام السياسي الراديكالي، ولا من المجاميع العنصرية العروبية الحاقدة، بل من التوافق اللامركزي الذي يحمي الجميع.

ومن هنا، تتّضح أهمية التصريحات الأخيرة للمبعوث الأمريكي توماس باراك، حين أشار بصراحة إلى كارثية اتفاقية “سايكس–بيكو”، ليس كحدث تاريخي ماضٍ، بل كجذرٍ مستمر للتشوّه الجغرافي والسياسي في المنطقة. باراك لم يتحدث من فراغ، بل من موقع يعكس إعادة تموضع الاستراتيجية الأمريكية، حيث لم تعد واشنطن تكتفي بإدارة الفوضى، بل تسعى، ولو تدريجيًا، إلى تصحيح الخرائط وفقًا لمصالحها الجديدة وشراكاتها الناشئة.

جاءت لغته أكثر حذرًا من أن تُغضب الحلفاء التقليديين، تركيا بشكل خاص، لكنها كانت كافية لتُقرأ بتمعّن من قبل كل من يعنيه الأمر، فسايكس–بيكو لم تُصمّم لمصلحة الشعوب، بل جُعلت لإرضاء الإمبراطوريات، واليوم، وبينما تترنّح تركيا، وتتلاشى سلطة إيران في سوريا، وتغيب روسيا عن المشهد، تعود الولايات المتحدة لترسم، عبر أدواتها المحلية، معالم مرحلة جديدة، بدأت تتشكل على أنقاض الخرائط القديمة، وبشركاء جدد، في طليعتهم الحراك الكوردستاني، وبينهم قسد والإدارة الذاتية.

يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
6/7/2025م