“وكأنّ زلزالاً قد حدث”: الهجمات التركية تقتل الحياة في شمال شرق سوريا

مشاركة

ترقى الضربات الجوية التركية في المنطقة لأن تكون هجمات على أهداف لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، وذلك في انتهاك للقانون الإنساني الدولي.

1ـ ملخص تنفيذي:
يغطي هذا التحقيق الموسع الحملات الجوية الثلاث التي شنّها الجيش التركي في الثلث الأخير من عام 2023 والشهر الأول من عام 2024، استهدف من خلالها، وبشكل متعمّد، البنية التحتية في عموم مناطق شمال وشرق سوريا، وهي المنطقة المعروفة بتنوعها الإثني والقومي، حيث يعيش فيها الكرد والعرب والسريان الآشوريين إلى جانب مجموعات دينية وعرقية عديدة.

بدأت الحملة الأولى في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر 2023، واستمرت لخمسة أيام؛ شهدت خلالها المنطقة حوالي 90 غارة باستخدام المسيرات والطائرات الحربية، استهدفت أكثر من 150 موقعاً حيوياً، بما في ذلك محطات تحويل الكهرباء، التي خرجت عن الخدمة، حارمةً سكان المنطقة من الكهرباء والمياه لأسابيع، وكذلك منشآت الطاقة، من نفط وغاز. أسفرت الغارات عن مقتل 48 شخصاً على الأقل، بينهم 11 مدنياً، وجرح 47 آخرون على الأقل، بينهم 15 مدنياً.

تسبب القصف الجوي التركي في الخامس من الشهر بنزوح جزأي لأهالي المناطق المستهدفة أو المحيطة بها إلى الريف خوفاً على حياتهم، فيما سببت الهجمات بالمجمل بتشكيل دافع نحو الهجرة خارج البلاد، طلباً للأمن، لاسيما في ظل انعدام الظروف الداعمة للحياة بعد القصف، والتي كانت هشّة أساساً. كما تقاطعت إفادات عدد من المصادر، الذين تحدثوا عن انتشار أعراض صحية، منها التبول اللاإرادي، بين الأطفال، بعد القصف.

وعن الأضرار المادية التي تسبب بها القصف، تقاطعت إفادات عدد من المصادر أيضاً، حيث أكد شهود عيان من منشآت الطاقة المستهدفة، أن الهجمات كانت أشدّ وذات أثر أكبر من سابقتها عام 2022، حيث أدت الهجمات إلى دمار بعض المنشآت كلياً خلال هذه الحملة، في انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي.

بتاريخ 25 كانون الأول/ديسمبر 2023، شنت تركيا حملتها الثانية المكثفة وواسعة النطاق بواسطة الطائرات المسيرة والحربية، كشفت عن حصيلتها وكالة الاستخبارات التركية (برئاسة إبراهيم قالن/كالن) في اليوم التالي، معلنةً تدميرها لما يقرب من 50 موقعاً مختلفاً في مدن عدة في المنطقة، شملت القامشلي/قامشلو وعامودا وعين العرب/كوباني، في شمال شرق سوريا. أدّت الغارات لمقتل 9 مدنيين على الأقل وجرح 18 آخرين.

خلال هذه الحملة، أعادت الطائرات التركية قصف حقل “عودة” النفطي، ضمن منشآت طاقة أخرى، فيما ركز القسم الأكبر من الضربات على منشآت مثل مصانع الأغذية والورشات الصناعية والمستودعات والمرافق الطبية، في نمط متسق لاستهداف البنية التحتية المدنية في المنطقة، مخرجةً مركزين طبيين عن الخدمة كلياً؛ كما طال القصف أطراف مخيم للنازحين الداخليين في الحسكة، مسبباً تعليق أنشطة مجموعة من المنظمات الإنسانية العاملة في الموقع.

في كانون الثاني/يناير 2024، شنت القوات الجوية التركية حملة مكثفة ثالثة امتدت ما بين الـ12 والـ15 من الشهر، استهدفت خلالها الطائرات الحربية والمُسيَّرة 64 موقعاً على الأقل في مناطق مختلفة من شمال شرق سوريا، وأعادت استهداف معظم البنى التحتية المدنية، ومن بينها منشآت الطاقة، كمحطة السويدية لتوليد الغاز والكهرباء، ومواقع في حقل “العودة” النفطي، التي أصابتها بدمار كلي أو جزئي خلال الحملتين السابقتين، لتخرجها عن الخدمة كلياً هذه المرة. أدت الهجمات إلى جرح 6 مدنيين، من بينهم طفلين.

2ـ رأي قانوني وتوصيات:
على الرغم من أن القانون الدولي الإنساني لا يقدّم تعريفاً مباشراً “للبنية التحتية المدنية”، إلا أن أحكامه وقواعده الملزمة في كل الأوقات والظروف تُمكّن جميع أطراف النزاع من تحديدها. أهم هذه الأحكام التي تتخذ طابع القواعد العرفية في القانون الدولي هي التمييز بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، حظر الهجمات العشوائية، التناسب والاحتياط في الهجمات، وحظر الهجمات ضد الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين. ويعتبر واجب التمييز باستمرار بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية عند إدارة العمليات العسكرية “حجر الزاوية” في القانون الدولي الإنساني لأنه يعكس هدفه الرئيس وهو حماية المدنيين والأعيان المدنية. ومما لا شك فيه أن كافة المرافق التي تُصنف كبنية تحتية هي بطبيعتها أعيان مدنية يحظر استهدافها مباشرة. هذه الأعيان هي “الهياكل والمنشآت المادية والتنظيمية التي تدعم الحياة اليومية للسكان المدنيين والتي تعتبر بالغة الأهمية لحسن سير المجتمع، ومنها شبكة المواصلات، شبكات إمدادات المياه والكهرباء، أنظمة الصرف الصحي وتوليد الطاقة، منشآت الرعاية الصحية، المؤسسات التعليمية، المساكن والمناطق السكنية، نُظم الاتصال، والخدمات العامة”.[1]

إن الأساس العملي لتطبيق مبدأ التمييز من قبل أطراف النزاع يتجلى في اعتبار أي عين على أنها مدنية ويحظر استهدافها طالما أنها لا تستوفي معيارَي الهدف العسكري وهما: يجب أن تسهم، بحكم طبيعتها أو موقعها أو غايتها أو استخدامها، مساهمة فعالة في العمل العسكري (أي أنها تؤدي دوراً هاماً ومباشراً في العمليات العسكرية على نحو يعزز قدرات أحد طرفي النزاع أو أهدافه العسكرية)، ويجب أن يحقق تدميرها التام أو الجزئي أو الاستيلاء عليها أو تعطيلها في ظل الظروف السائدة حينذاك، ميزة عسكرية أكيدة للطرف المهاجم.[2] يجب أن يتم تقييم كل عين بشكل منفرد وألا يتم مجرد الافتراض أنها هي بالذات أو أعيان أخرى شبيهة بها تساهم في العمل العسكري للخصم كي يمنح الطرف المهاجم نفسه حقاً فورياً وبديهياً لمهاجمتها. ولعل البيان الذي أدلى به ممثلون عن الدولة التركية يجسد مثل هذا الافتراض لأنه لا يصنف الأعيان المذكورة على أساس استيفائها معيارَي الهدف العسكري المشروع، إنما على أساس مجرد “التبعية” للخصم. يجب على الطرف المهاجم، في حال تأكد من أن العين المنوي استهدافها “تساهم بفعالية في العمل العسكري للخصم”، أن يثبت أن الميزة العسكرية المكتسبة من الهجوم “مباشرة ومحددة”، أي ملموسة وقريبة المدى نسبياً، وضمن الفترة التي تلبي فيها العين غرضاً عسكرياً، وليست مجرد مزايا يصعب إدراكها أو لن تظهر مفاعيلها إلا على المدى الطويل.[3] إن الادعاء أن أي عين هي هدف مشروع لمجرد تبعيتها الميدانية أو الإدارية للخصم يفرغ مبدأ التمييز من جوهره ويخالف جوهر وغرض القانون الدولي الإنساني، لأنه قياساً على ذلك، يمكن لأي طرف في النزاع التعامل مع جميع الأعيان المتواجدة في مناطق سيطرة الخصم على أنها أهداف مشروعة.

وكي يكون مشروعاً وفقاً للقانون الدولي الإنساني اعتبار أحد مرافق البنية التحتية هدفاً عسكرياً بما يفقده الحماية الممنوحة له كأحد الأعيان المدنية، يجب أن يثبت بشكل مؤكد للطرف المهاجم أن المرفق المقصود يتم استخدامه لأغراض عسكرية أولاً، وأن مهاجمته ستحقق ميزة عسكرية واضحة ومباشرة أثناء ذلك الاستخدام ثانياً. إن عدم توفر المعلومات المؤكِّدة لهذين الشرطين يثير الشك حول ما إذا كانت هذه العين مكرسة لأغراض مدنية أو يتم استخدامها في تقديم مساهمة فعالة للعمل العسكري، وبالتالي يجب على الطرف المهاجم افتراض أن هذه العين لا تستخدم لذلك والامتناع عن مهاجمتها.[4] وفي الحالات التي تتوفر للطرف المهاجم معلومات مؤكدة عن “الاستخدام المزدوج” لأحد مرافق البنية التحتية، أي أنها تخدم أغراضاً مدنية وعسكرية على حدٍّ سواء، يبقى الطرف المهاجم ملزماً بتطبيق مبدأ التمييز للتأكد من أن هذا الاستخدام يستوفي معيارَي الهدف العسكري، ومن ثم واجب الالتزام بمبدأي التناسب والاحتياط.

وفي هذا السياق، فلو افترضنا أن محطات توليد وتحويل الطاقة الكهربائية وحقول النفط تم استهدافها وفقاً لما يعرضه التقرير على اعتبار أنها ذات استخدام مزدوج وبما يتوافق مع مبدأ التمييز، فهذا بحد ذاته لا يجعل الهجمات قانونية تلقائياً لأن مبدأ التناسب يفرض على الطرف المهاجم إيلاء اهتمام خاص لتأثير تلك الهجمات ذات الارتدادات طويلة الأمد على توفير الخدمات الحيوية للسكان المدنيين، بما في ذلك – كما يعرض التقرير– على الرعاية الصحية، والتزود بالمياه النظيفة، وغيرها من الحاجات الأساسية اللازمة لبقاء السكان المدنيين وتأمين رفاههم في ظل الظروف القائمة عند الاستهداف. والظروف السياقية القائمة في مناطق الاستهداف تؤكد أن الضرر الذي سيلحق بالمدنيين يعتبر مفرطاً مقارنة بالميزة العسكرية المباشرة والملموسة لكل استهداف،[5] خاصة في ظل أزمة المياه، تعقيدات الوصول الإنساني، الضائقة الاقتصادية، ومحدودية خدمات الرعاية الصحية. بالتالي، إن الهجمات التي لا تستوفي مبدأ التناسب في هذا السياق بالذات قد ترقى لتكون أيضاً انتهاكاً لمبدأ حظر حرمان السكان المدنيين من الخدمات الأساسية اللازمة لبقائهم على قيد الحياة. عند تقييم حجم التناسب، يتعين على أطراف النزاع ألا تأخذ في الاعتبار الضرر المباشر الذي قد ينشأ عن الهجوم وحسب، بل أن تراعي أيضاً الضرر المحتمل أو طويل الأمد الذي قد يكون له ترددات على السكان المدنيين. ويتضمن هذا التقييم الشامل اعتبارات السـياق والظروف المحددة المحيطة بالهدف. فعلى سبيل المثال وفي سياق الهجمات الواردة في التقرير، لا يمكن التغاضي عن عدد السكان الذي يعتمدون بشكل شبه كلي على الخدمات الأساسية التي توفرها البنى التحتية المستهدفة، وكذلك غياب أية بدائل ممكنة، عدا عن التكلفة الباهظة المطلوبة لإعادة تأهيلها والوقت الذي سيتطلبه ذلك بينما يُترك المدنيون دون وصول لتلك الحاجات الأساسية اللازمة لبقائهم.

علاوةً على ذلك وبشكل مرتبط، يتعين على الطرف المهاجم بعد التحقق من اتصاف أي مرفق من مرافق البنية التحتية المدنية بالهدف العسكري، والتأكد من امتثاله خلال الهجوم المتوقع لمتطلبات التناسب، يتعين عليه اتخاذ كافة التدابير الممكنة من أجل تجنب إلحاق ضرر بالسكان المدنيين والأعيان والمدنية أو حصره في أضيق نطاق. وعطفاً على متطلبات التناسب بأبعاده طويلة الأمد، يجب أن تأخذ تدابير الاحتياط بعين الاعتبار عوامل مختلفة منها مكان المرفق ونوع الهجوم وتوقيته، بالإضافة إلى موقعه ودوره الحيوي ونوع السلاح المستخدم. إن الإعلان بشكل مسبق عن اعتبار جميع مرافق البنية التحتية أهدافًا مشروعة يتعارض أيضًا مع واجب بذل “الحرص الدائم” الذي يتطلب تقييماً متواصلاً للوضع، وتكييفاً للعمليات العسكرية تجنباً للضرر الذي قد تسببه الهجمات للسكان المدنيين أو حصره في أضيق نطاق. بناءً على ذلك، لا يقتصر الالتزام باتخاذ الاحتياطات اللازمة على تخطيط الهجمات الفردية وتنفيذها، بل يطال أيضاً الاستراتيجية والتكتيكات العسكرية الأوسع.

بالإضافة إلى كل ذلك، يفرض القانون الدولي الإنساني قواعد وتدابير حماية خاصة على البنية التحتية الحيوية، ومنها تلك التي تأثرت بضرر غير متناسب فيما يعرضه التقرير، خاصة الوحدات الطبية؛[6] الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين؛[7] والبيئة الطبيعية.[8] الحماية الخاصة الممنوحة لهذه الأعيان تفرض على أطراف النزاع اتخاذ تدابير إضافية لحمايتها من وأثناء الهجوم، وترفع عتبة المعايير المطلوبة لكل من مبادئ التمييز، والتناسب، والاحتياط. فعدا عن الحظر المطلق لاستهداف الوحدات الطبية أو تدميرها أو مصادرتها،[9] فهي لا تفقد تلقائياً الحماية الممنوحة لها في حال تم استخدامها في أنشطة تحيد عن مهمتها الإنسانية وقد تلحق ضرراً بالعدو، بل يستمر العمل بهذا الحق ما لم يوجّه إليها إنذار مناسب ومعقول من دون أن تأخذ به.[10] على الجانب الآخر، فنظراً إلى الظروف السياقية التي تجعل من بعض البنى التحتية المتناولة في التقرير–كوحدة غسيل الكلى أو إنتاج الأكسجين أو محطات الكهرباء–مرافق حيوية ترقى لتكون لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، لا يمكن تبرير استهدافها أو التسبب بضرر فادح لها “يتوقع أن يترك السكان المدنيين بما لا يكفي من مأكل ومشرب على نحو يسبب مجاعتهم أو يضطرهم للنزوح”.[11] إن تحديد البنية التحتية الضرورية لبقاء السكان المدنيين مرتبط بالسياق المحدد، ويعني هذا أن تدمير أو تعطيل محطة كهرباء لا بديل عنها للآلاف من السكان المدنيين ومن ضمنهم نازحون، يرقى ليكون حرماناً لهؤلاء السكان من مقوّمات بقائهم، وهو أمر يحظره القانون الدولي الإنساني في كل الأحوال.[12]

هذا ومن الأهمية بمكان، عدم اسـتغلال الحماية الممنوحة للبنية التحتية المدنية من خلال وضع أهداف عسكرية أو شن هجمات على مقربة من هذه الأعيان، وهي أعمال محظورة صراحة بموجب مبادئ القانون الدولي الإنساني. فعلى الرغم من أن القانون الدولي الإنساني لا يحظر على وجه التحديد استخدام الأعيان المدنية لأغراض عسكرية، فإنه يفرض على الأطراف الضالعة في النزاعات المسلحة واجب حماية المدنيين والأعيان المدنية الخاضعة لسيطرتها من الانعكاسات السلبية للهجمات.[13] فينبغي دوما حماية الأعيان الممنوحة حماية خاصة، بما في ذلك المستشفيات وسواها من البنى التحتية الأساسية، من المخاطر الناجمة عن العمليات العسكرية، بالامتناع أساسا عن استغلالها لأغراض عسكرية.