مجموع

مستقبل سوريا: نحو وحدة وطنية على أساس فيدرالي واعتراف دستوري بالشعب الكوردي

مشاركة

دراسة في بنية الدولة وإشكالية الهوية الوطنية بعد الصراع

بقلم: خالد حسّو

المقدمة

لم تكن الحرب في سوريا مجرّد تمرّد داخلي أو نزاع على السلطة، بل انفجارًا تاريخيًا لبنية دولة وُلِدت فوق ركام التعدد القومي والطائفي، دون عقد اجتماعي جامع.
لقد انهارت الدولة حين ظنّ حُكامها أنّ المركزية هي ضمان الوحدة، وأنّ إلغاء التنوع هو طريق الاستقرار.
غير أنّ التجربة أثبتت أن النفي لا يُنتج إلاّ الخراب، وأنّ المجتمعات التي تُبنى على الإنكار تتحول إلى خرائط من الرماد.

اليوم، يقف السوريون أمام سؤال الوجود نفسه:
هل يمكن إعادة تأسيس الدولة على قاعدة الاعتراف، لا الإخضاع؟
هل يمكن أن تكون الفيدرالية صيغة خلاص لا تفكّك؟
وهل يمكن أن يجد الشعب الكوردي مكانه المستحق في هويةٍ وطنية لم تعترف به منذ تأسيسها؟

إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة لا تمرّ بالشعارات، بل بصياغة رؤية فلسفية – دستورية جديدة تعيد تعريف الوطن بوصفه تعدّدًا منظَّمًا لا وحدة قسرية.⁽¹⁾

الفصل الأول: مأزق الدولة الوطنية السورية

منذ استقلال سوريا سنة 1946، تشكلت الدولة على أساس بنية سلطوية تمركزت في العاصمة، واحتكرت تعريف “الوطنية” ضمن هويةٍ عربية أحادية.
كان خطابها الأيديولوجي قائمًا على معادلة زائفة: كلّ اختلاف هو تهديد، وكلّ اعتراف ضعف.
تلك الصيغة هي التي مهّدت لانفجار العقد الوطني، إذ تحوّلت الدولة من “حاضنة للجميع” إلى “وصية على الجميع”.

لم يكن غياب الديمقراطية مجرّد مشكلة سياسية، بل نفيًا لحقّ الوجود الثقافي واللغوي للمكونات، خصوصًا الشعب الكوردي.
فالدولة المركزية التي لا تحتمل الاختلاف تتحول مع الزمن إلى بنية استعمار داخلي.⁽²⁾
وهكذا، حين انهارت السلطة، تبيّن أن ما انهار لم يكن النظام فقط، بل مفهوم “الوطن” ذاته.

الفصل الثاني: المسألة الكوردية في السياق السوري

يمتدّ الوجود الكوردي في الجغرافيا السورية عبر تاريخٍ طويلٍ من التفاعل والاندماج والمقاومة.
من جبال عفرين إلى سهول الجزيرة، ومن كوباني إلى سري كانيه، كان الكورد جزءًا أصيلًا من البنية السوسيولوجية السورية، لا “أقلية وافدة” كما صوّرتهم الدولة القومية الحديثة.
لكن سياسات البعث منذ الستينيات أعادت تعريفهم خارج الانتماء الوطني:
تم تجريد أكثر من 120 ألف كوردي من الجنسية بموجب إحصاء 1962، مُنع التعليم بلغتهم، وتمّ تغييبهم عن المؤسسات السياسية.⁽³⁾

ومع ذلك، حافظ الشعب الكوردي على هويته الثقافية عبر اللغة والفولكلور والعائلة، مؤكدًا أن الانتماء لا يحتاج إلى اعترافٍ رسمي بقدر ما يحتاج إلى إصرارٍ حضاري.
بعد 2011، ومع انكشاف خواء الدولة المركزية، برزت المناطق الكوردية بوصفها نموذجًا لإدارة ذاتية ناجحة نسبيًا، رغم كل التحديات والحصار.
إنّ هذه التجربة، على محدوديتها، أثبتت أن الإدارة اللامركزية قادرة على إنتاج استقرارٍ فعليّ أكثر مما أنتجته خمسون سنة من المركزية الأمنية.⁽⁴⁾

الفصل الثالث: الفيدرالية كإعادة هندسة للهوية السياسية

الفيدرالية ليست وصفةً أجنبية تُفرض على الواقع، بل استجابة عقلانية لتاريخٍ فشل في إدارة نفسه.
فهي لا تقسّم الأوطان، بل تُعيد توزيع السيادة داخلها.
وهي لا تنفي الهوية الوطنية، بل تتيح لها أن تتنفس ضمن إطار تعددي دستوري.

تُقدِّم التجارب الدولية نماذج ناجحة على ذلك:
ففي سويسرا، تمّ توحيد أربع لغات تحت دولة واحدة عبر توزيع السلطات بين الكانتونات.
وفي كندا، حُفظت خصوصية مقاطعة كيبيك الفرنكوفونية دون أن يُمسّ بوحدة الدولة.
أما في العراق بعد 2005، فقد شكّل الاعتراف الدستوري بإقليم كردستان حجر الأساس لوحدة اتحادية قائمة على التوازن لا على الإخضاع.⁽⁵⁾

سوريا الجديدة يمكن أن تكون نموذجًا مشابهًا:
فيدرالية قائمة على الإقليمية الجغرافية، لا الطائفية أو الإثنية، مع ضمان الحقوق الثقافية والسياسية المتساوية لكل مكون.
بهذا الشكل، تتحول “الفيدرالية” من فزاعة سياسية إلى ركيزة وطنية لولادة دولة حديثة.

الفصل الرابع: الدستور الجديد كعقدٍ وطنيّ جامع

إنّ الدستور القادم يجب أن يُكتب لا بلغة المنتصر، بل بروح الجماعة الوطنية الجديدة.
فأي وثيقة دستورية لا تعترف بالتعدد القومي والديني ستكون استمرارًا للمأساة بوسائل قانونية.
يجب أن ينصّ الدستور بوضوح على أنّ سوريا دولة فيدرالية ديمقراطية متعددة القوميات، وأنّ الشعب الكوردي مكوّن أصيل يتمتع بحقوق لغوية وثقافية وسياسية مكفولة.⁽⁶⁾

كما يجب أن يُعاد تعريف المواطنة من كونها “انتماءً إجباريًا للدولة” إلى “انتماءٍ متبادل بين المواطن والدولة”.
ذلك أن المواطنة الحقيقية ليست حالة قانونية فحسب، بل تجسيدٌ لكرامة الفرد داخل الجماعة السياسية.⁽⁷⁾

الفصل الخامس: الشرعية الدولية وحق تقرير المصير

ينص ميثاق الأمم المتحدة في مادته الأولى على احترام مبدأ المساواة في الحقوق بين الشعوب وحقها في تقرير المصير.
كما تؤكد المادة الأولى من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أن “لكل الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها”.
وهذا لا يعني بالضرورة الانفصال، بل يشمل إدارة الشؤون الذاتية ضمن الدولة.⁽⁸⁾

وبالتالي، فإنّ الفيدرالية السورية ليست مشروعًا انفصاليًا، بل ترجمة قانونية لمبدأ تقرير المصير الداخلي، أي حقّ الشعب الكوردي وسائر المكونات في المشاركة العادلة بالسلطة والثروة.
إنّ الاعتراف بهذا الحق لا يهدد وحدة سوريا، بل يحميها من التفكك والانهيار.
فالوطن الذي لا يعترف بأبنائه يتحوّل إلى سجنٍ كبير، لا إلى بيتٍ مشترك.

الفصل السادس: البعد الجيوسياسي والفلسفي للفيدرالية

تشكّل سوريا اليوم عقدة جيوسياسية بين أربع دول تضم شعوبًا كوردية كبرى (تركيا، العراق، إيران، سوريا).
لذلك، فإنّ أيّ حلٍّ في الداخل السوري سيُحدث بالضرورة ارتدادات إقليمية.
لكنّ التجربة العراقية أثبتت أن الفيدرالية ليست تهديدًا لجيرانها، بل عامل استقرارٍ إذا ما تأسست على العدالة.

من الناحية الفلسفية، الفيدرالية هي انتقال من مفهوم “السلطة الواحدة” إلى “التنظيم التعددي”، من

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى