د. طارق حمو
الحراك الدبلوماسي النشط الذي تقوم به حكومة «تصريف الأعمال» يوحي بوجود برنامج واضح المعالم لدى هيئة تحرير الشام في تحديد ملامح سوريا الجديدة بعد 54 سنة من حكم نظام بشار الأسد ووالده.
الزيارات التي قام بها كل من وزراء الخارجية والدفاع ورئيس الاستخبارات إلى السعودية، ثم الإمارات، وزيارة كل من وزيري خارجية ألمانيا وفرنسا إلى دمشق تُسجل لصالح حكومة دمشق، وأيضاً تُظهر اهتماماً عربيا ودولياً بما يجري في سوريا من تطورات.
الكل يرى بأن سوريا انفتحت على العالم، وهي تتهيأ الآن لحوار وطني تقول الحكومة إنه يمهد لعملية سياسية وحوكمة صحيحة. هناك ملفات ضخمة تنتظر البت فيها: علاقة هيئة تحرير الشام بالحكم، والدستور وطبيعة الدولة، واللامركزية وتشكيل الجيش والأجهزة الأمنية، والمهجرين/اللاجئين، والتواجد الأجنبي وبخاصة الاحتلال التركي، والعلاقات مع دول الجوار والمحيط العربي.
وكان لقاء حدث بين أحمد الشرع، رئيس الإدارة الانتقالية، ووفد من قوات سوريا الديمقراطية «قسد» للحديث حول الجيش السوري الجديد. وتحدثت المعلومات التي رشحت من اللقاء بأنه كان إيجابياً، وأن الطرفين، أي هيئة تحرير الشام و«قسد» اتفقا على لقاءات جديدة بغية تطوير صيغة تفاهم بين الجانبين وإيجاد حلول لكل القضايا والملفات. وحدث اللقاء في وقت تواصل الدولة التركية والميليشيات الموالية لها شن المزيد من الهجمات على مناطق في أرياف كوباني ومنبج، ومحاولة السيطرة على سد تشرين وجسر قره قوزاق. وبينما تستمر أنقرة في الضغط على دمشق لدفعها إلى التحرك عسكرياً ضد «قسد»، تعمل الماكينة الإعلامية المرتبطة بتركيا وقطر في نشر الأخبار المزيفة والتحريض ضد «قسد» والإدارة الذاتية وخطاب الكراهية ضد الكرد.
وأبدت كل من فرنسا وألمانيا موقفاً مؤيداً للحوار بين دمشق والإدارة الذاتية و«قسد». ودعا وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو من دمشق الإدارة الجديدة إلى التوصل لحل سياسي مع الكرد، قائلاً: «ينبغي إيجاد حل سياسي مع حلفاء فرنسا الكرد لكي يتم دمجهم بالكامل في العملية السياسية التي تنطلق حالياً». وأجرى الوزير الفرنسي اتصالاً هاتفياً مع الجنرال مظلوم عبدي، قائد قوات «قسد»، تحدث فيه عن الأوضاع والتطورات، ودور «قسد» والهجمات التي تشنها فصائل مدعومة من أنقرة، وتهديد الحكومة التركية بشن هجوم على مدينة كوباني، والعمليات التي تقوم بها «قسد» ضد تنظيم داعش الإرهابي.
أما وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، فأبلغت الشرع في دمشق بأنه يجب إشراك الكرد في العملية السياسية، وقالت إن «الكرد في سوريا يحتاجون إلى ضمانات أمنية موثوقة». كذلك، قالت بيربوك إن «أوروبا لن تمنح أموالاً للهياكل الإسلامية الجديدة».
يعد ملف شكل الدولة والصيغة التي تحدد علاقة الأطراف بالمركز من بين أهم الملفات التي تشغل السوريين الآن. اللامركزية هنا، الملف الذي سيحدد شكل وطبيعة الدولة القادمة ويقرر عنوان المرحلة الجديدة: توافق وتعاون أو نزاع وخصومة تؤثر على مجمل الوضع السوري. وكانت محافظة السويداء رفضت التخلي عن سلاحها وتسليم المقار والمؤسسات إلى مسلحين تابعين لهيئة تحرير الشام. وقال الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري إن «تسليم السلاح أمر مرفوض نهائياً لحين تشكيل الدولة وكتابة الدستور لضمان حقوقنا». ويسيطر على السويداء توجه سياسي بتسلم أهل المحافظة إدارتها ورفض دخول قوى أخرى من خارج المحافظة. إنها دعوة صريحة للامركزية الإدارية. واللامركزية هي كذلك مطلب إقليم شمال شرق سوريا الذي بني على عقد اجتماعي بين المكونات العربية والكردية والسريانية وغيرها وحمته «قسد» بتضحيات جسيمة أصبحت من خلالها الشريك الأساسي في الحرب على تنظيم داعش الذي تم تحرير مدينة الرقة من سيطرته عام 2017، قبل القضاء على آخر معاقله في الباغوز عام 2019.
يتوطد لدى الشرائح الاجتماعية والمكونات السورية اعتقاد أن اللامركزية هي الصيغة الوحيدة القادرة على ضمان حقوقها ومنع المركز الأحادي الفكر والتوجه من التحكم بها وفرض أجندة عليها لا تتواءم مع طبيعتها الإثنية والدينية والمذهبية.
وبعد المطالبات الصريحة من إقليم شمال وشرق سوريا ومحافظة السويداء بإقرار صيغة اللامركزية في الدستور السوري القادم، تتبلوّر مطالب مشابهة لدى منطقة الساحل السوري ولدى الطوائف المسيحية السورية في مدن الداخل. وفي حين تعارض هيئة تحرير الشام كل أشكال الصيغ اللامركزية الإدارية وتنشد التمدد العسكري والإداري والفكري في كل مناطق البلاد، تواصل الماكينة الإعلامية لكل من تركيا وقطر والمعارضة السورية التابعة لهما تشويه هذه الفكرة وتخوين كل من يطالب بها واتهامهم بالسعي لتقسيم سوريا.
يطال التشويه والتخوين المكون الكردي في المقام الأول، وأيضا شيوخ ووجهاء ومثقفي الطائفة الدرزية في السويداء، مع تغاض واضح عن الهياكل الإدارية اللامركزية في كل من إدلب (حكومة الإنقاذ/هيئة تحرير الشام) ومناطق الاحتلال التركي (الحكومة السورية المؤقتة/الائتلاف)، فضلاً عن وجود «الجيش الوطني السوري» وهو تشكيل انفصالي مسلح ترعاه تركيا وتحتل عبر واجهته مناطق سورية شاسعة، حيث تعمل فيها سياسات مدروسة هدفها التتريك والإلحاق.
ثمة مراقبة لما يحدث في دمشق. هناك في الداخل حراك سوري يرفض أي تغيير تريد هيئة تحرير الشام إحداثه في مؤسسات الدولة السورية، خاصة ما يمس حرية التعبير وحريات الفرد ومناهج التعليم وحقوق المرأة. ثمة تقبل دولي لصيغة اللامركزية. هناك اعتقاد بأن هيئة تحرير الشام التي أسقطت نظام الأسد عسكرياً وفرضت نفسها على الحكم، لن تترك السلطة (طوّرت شعبياً لاحقة: من يحرر يقرر!)، وأن الإجراءات التي تعتمدها (منحها الميدانيين فيها رتباً عسكرية بعد تجنيسهم) توحي بأنها في مرحلة «التمكين»، وأن هدفها المنشود هو الأسلمة وتحويل سوريا إلى إمارة إسلامية على غرار ما فعلته حركة طالبان في أفغانستان. ومن هذا الفهم، يأتي تصريح وزيرة الخارجية الألمانية برفض أوروبا تمويل الهياكل الإسلامية التي تنوي هيئة تحرير الشام بنائها وترسيخها في البلاد. أي أن منح أوروبا الأموال لأي حكومة في دمشق والمساهمة في إعادة الإعمار سيكون مشروطاً ببناء دولة مدنية، وليس دينية، تحترم خصوصيات المكونات السورية وترضى بصيغ لامركزية وتبتعد عن الأحادية والإقصاء وترجيح الحلول العسكرية والأمنية.
الموقف الدولي من إقليم شمال وشرق سوريا و«قسد» موقف إيجابي. هناك تقبل لمطالب الإقليم في اللامركزية والاحتفاظ بالخصوصية ضمن الدولة الجديدة. ثمة ميل لأن تبقى «قسد» القوة الأكثر تنظيماً وانضباطاً كما هي وتستمر في عملها كرأس حربة ضد تنظيم داعش الذي بدأ يتمدد في البادية السورية، مستفيداً من حالة الفراغ، حيث بدأت خلاياه شن هجمات في العديد من المناطق، وكذلك أن تبقى «قسد» قادرة على ضبط السجون والمعتقلات التي تضم الآلاف من عناصر التنظيم الإرهابي والمخيمات التي تضم عشرات الآلاف من أفراد عائلات مقاتلي «داعش» المعتقلين. ومن هذا المنطلق، شنت فرنسا هجمات جوية طالت مواقع التنظيم في البادية السورية، مسجلة حضوراً متجدداً في الحملة الدولية ضد «داعش» بالتعاون مع «قسد» واستناداً إلى المعلومات الاستخباراتية التي تقدمها. من جهتها، بدأت الولايات المتحدة تشييد قاعدة عسكرية في مدينة كوباني ونقلت آليات ثقيلة وأجهزة مراقبة ورصد برفقة عشرات الجنود إلى المدينة التي حاربت «داعش» وهزمتها قبل أكثر من عشر سنوات. هي رسالة لتركيا بأن لا تتقدم نحو كوباني، وكذلك رسالة لدمشق بأن واشنطن مستمرة في الاعتماد على «قسد» كشريك موثوق في الحرب على الإرهاب.
تراقب الدولة التركية التطورات في سوريا. ترغب أنقرة في احتلال مكان إيران وروسيا معاً في سوريا الجديدة. تريد اتفاقيات استراتيجية تمنحها اليد الطولى والمكانة العليا في سوريا. تحاول أنقرة الآن تمرير اتفاقياتها مع السلطة الانتقالية في رسم الحدود البحرية والتمدد في المياه الإقليمية السورية تحضيراً لسرقة الغاز والنفط السوريين. كما تستعد لإقامة قواعد عسكرية برية وبحرية والإشراف الكامل على ملف إعادة الإعمار وتحديد شكل النظام السياسي ورسم ملامح وعلاقات الدولة الجديدة. لا تتحدث أنقرة عن المناطق التي احتلتها بمعية الفصائل الموالية لها، وتواصل منهجية التتريك في ظل صمت دمشق وأغلب القوى السياسية السورية. سوريا في المنظور التركي هي عكس ما يتمناها أهلها: دولة مركزية تابعة تقودها «هياكل» الإسلام السياسي المتشدد، من تلك التي ترى في «بديهيات» ثقافية ومدنية سورية خطوطاً حمراء ومحرمات لديها، بما في ذلك اعتبار «تفصيل صغير» من قبيل مصافحة امرأة، حتى لو كانت وزيرة خارجية دولة مؤثّرة، إثماً كبيراً وتنازلاً لا يغتفر عن «ثوابت» العقيدة.
المصدر: المركز الكردي للدراسات