crossorigin="anonymous"> روجافا بين التأسيس والتزوير: حين يُستغل النضال باسم المجد – xeber24.net

روجافا بين التأسيس والتزوير: حين يُستغل النضال باسم المجد

مشاركة

بقلم: رستم ولات

كم أنا فخور بثورة روجافا، تلك التي أضاءت شعلة الأمل في قلب كل كردي أينما وُجد، ووقفت شامخة في وجه محاولات التهميش والطمس والإنكار. إنها ثورة شعب، ثورة وعي، وثورة هوية.
ومع ذلك، لا يسعني إلا أن أطرح تساؤلًا مؤلمًا: لماذا ينظر البعض إلى شعب روجافا وكأنه بلا وعي، لا يتقن لغته، عديم الخبرة السياسية؟ لماذا تُختزل الثورة في تفاهات إعلامية، ومجالس تحمل أسماء عظيمة ولكنها خاوية من المضمون؟ لماذا يتم التعامل مع إنجازات شعب بأكمله وكأنها مجرد صدفة تاريخية لا تستحق الاحترام؟
هذا التناقض دفعني إلى التعمق في التاريخ الكردي، قديمه وحديثه. قرأت عن ثورات عظيمة، ومناضلين حقيقيين تركوا أثرًا خالدًا في الوجدان الجمعي الكردي. لكنني، ونتيجة التجارب القاسية التي عايشتها في الزمن المعاصر، لم أعد قادرًا على تصديق كل ما يُروى، إذ بات من الصعب التمييز بين النضال الحقيقي وبين من تسلقوا على أكتاف الثورة لمصالحهم الشخصية.
في عام 2013، كنت في مدينة قامشلو. كانت بداية الثورة الكردية التي انفصلت عن ما يُسمى بالثورة السورية. كنا نعيش شبه مجاعة تحت حصار خانق، بلا كهرباء ولا مياه ولا أمان. ومع ذلك، عشت مرحلة سياسية وإعلامية نشطة، على عكس معظم الشباب الذين هاجروا بحثًا عن لقمة عيش تحفظ كرامة عائلاتهم. وهكذا، خلت الساحة السياسية من الشباب، وظهر نوع آخر من “القيادات”.

لم يكن هناك أي نشاط يُذكر للمجلس الوطني الكردي على سبيل المثال، سوى مكاتب مفتوحة تقدم الشاي والقهوة لزوارها من كبار السن، وغالبيتهم موظفون لدى الدولة. هؤلاء كانوا يتوجهون إلى أماكن عملهم في الصباح، يوقعون بأنهم على رأس عملهم، ثم يقضون وقتهم في تلك المكاتب حتى توقيع نهاية الدوام. شيئًا فشيئًا، بدأوا يظهرون في الإعلام كأعضاء في الأمانة العامة للمجلس، بألقاب مثل “رئيس” أو “سكرتير”، دون أن يمتلكوا أدنى مقومات الخطاب السياسي، لا يجيدون التحدث بالكردية بطلاقة، ولا حتى بالعربية.
لقد استغل هؤلاء الفراغ السياسي ليصنعوا لأنفسهم مكانة وهمية. الأحزاب بدورها كانت بحاجة إلى من يُظهر الاحترام بمظهره الرسمي، فكان تبادل المنفعة واضحًا: واجهة شكلية مقابل شرعية مفرغة من أي مضمون. وما زلت أؤمن أن اسم “المجلس الوطني الكردي” اسمٌ عظيم، لكنّه استُهلك وتم توظيفه من قِبل أشخاص وجدوا فرصة في زمن الجوع والهجرة.
وإلا، كيف نفسّر شعورنا بالإحراج عندما نشاهد سياسيًا يمثل المجلس على التلفاز عاجزًا عن نطق عشر كلمات بترابط ووعي؟ كيف لنا أن نُقنع أنفسنا أن هذا “التمثيل السياسي” هو ما كنا نطمح إليه حين حلمنا بثورة شعب؟
ولعل أبرز ما شهدته عن قرب، كان قبل أيام من انعقاد مؤتمر “تحقيق الوحدة الكردية” في قامشلو. في تلك الأيام، بدأ بعض هؤلاء “القيادات” يظهرون على شاشات قنوات مقربة، ليتحدثوا عن المؤتمر. كان الصحفي أو المذيع يسأل: من سيحضر؟ وما هو جدول أعمالكم؟ فلم يكونوا يعلمون شيئًا. لا أسماء المدعوين، ولا جدول التنظيم، ولا حتى المحاور الأساسية. همهم الوحيد كان الظهور الإعلامي، وأن يُقال: “فلان ظهر على الشاشة”. جملة دارجة في شوارع روجافا.
هذا، في رأيي، ليس سوى شكل من أشكال “المرض السياسي” الذي يمكن تسميته بـ”هوس الشهرة”، حيث يسعى بعض الأشخاص خلف الأضواء بأي ثمن، حتى إن كانت الوسيلة زائفة أو سطحية. المهم لديهم أن يلتقطوا صورة مع رئيس دولة أو شخصية عامة. بل وحتى في الأماكن العامة، ما إن يروا صحفيًا أو كاميرا، حتى يركضوا نحوه دون تردد، وكأنها بطاقة عبور نحو السلطة.
أما إذا كنت شخصاً تطمح للعمل السياسي، فكل ما عليك فعله هو امتلاك بعض المال، ودعوة أحد الأحزاب إلى مأدبة غداء. حينها، لن يفاجئك أن يُعرض عليك منصب قيادة. هكذا ببساطة، يمكن أن تصبح مسؤولًا، لا لأنك تملك فكرًا أو رؤية أو لغة، بل لأنك قدمت طعامًا في الوقت المناسب. شابَ شعري وأنا أراقب هذه المسرحية تُعاد مرارًا وتكرارًا.
أعتقد أن حكومة إقليم كردستان العراق لا تدرك هذه التفاصيل. فعندما تستقبل وفدًا من روجافا، فإنها تفعل ذلك بدافع الاحترام لشعبنا، وخاصة من جانب الرئيس مسعود بارزاني، المعروف بحبه ودعمه لروجافا. لكن بعض من يمثّلون الشعب هناك لا يعكسون حقيقته. ربما يتصور البعض أن ما يراه هو صورة ذهنية عن جهل أو بساطة، لكنها في الحقيقة صورة مشوهة ناتجة عن خلل في التمثيل.
الشعبية التي يتمتع بها المجلس الوطني الكردي في بعض الأوساط، لا تعود إلى مشروع نضالي أو رؤية واضحة، بل بسبب ارتباطه الرمزي بإقليم كردستان وشخصية الرئيس بارزاني. لو سألت شخصًا اليوم عن أحد الأحزاب المنضوية ضمن المجلس، فربما لا يعرف أسماءها، لكن إن قلت له “حزب كاك مسعود”، فسيرد بسرعة: “نعم، أعرفه”.
وهنا تكمن المأساة الكبرى: استُغلت الرموز الكردية من أجل مشاريع سياسية شخصية، وضيّعنا فرصة بناء تمثيل حقيقي يعبر عن آمال الناس وآلامهم. في وقتٍ نحن أحوج ما نكون فيه إلى قيادة صادقة، تتحدث بلساننا، وتفهم همومنا، وتحمل مشروعًا وطنيًا حقيقيًا لا دعائيًا.
روجافا اليوم ليست بحاجة إلى شعارات مزيّفة ولا إلى مناصب شكلية، بل إلى من يحمل همّها بوعي، ويقودها بمسؤولية وشجاعة. فالثورات لا تُقاس بعدد المكاتب المفتوحة، ولا بعدد الصور المعلّقة على الجدران، بل بما تحققه فعليًا من كرامة، وحرية، وعدالة لأهلها.
….
هذا المقال هو الجزء الأول من سلسلة مقالات ستتناول لاحقًا دور الكتّاب والإعلاميين في روجافا… بين التأريخ والتزييف.