بقلـم: أحمد شيخو
ما زالت سوريا تعيش المرحلة الانتقالية منذ حوالى تسعة أشهر، بكل إشكالياتها وتحدياتها، التى نلاحظها فترة صعبة ومعقدة التركيب على الشعب السورى وكذلك على المنطقة، لما تمت مشاهدته من الأحداث الداخلية المتوترة، وكذلك التدخلات الخارجية والإقليمية المستمرة، التى فى كثير من الأحيان لا تتوافق مع المصلحة الوطنية العليا السورية.
لا شك أن سوريا، وبمكوناتها الإثنية والدينية، وبموقعها الجغرافي، تشكّل حلقة مفصلية مهمة بين أطراف دولية وإقليمية عديدة، وكذلك لوقوعها على خطوط تواصل اقتصادية دولية. ولذلك شاهدنا حرارة الداخل السورى الدموية أحيانًا، وكذلك زخم الحضور والتدخلات الإقليمية والدولية، الذى كان له كلمة الفصل فى 8 ديسمبر، ومحاولة نقل سوريا من محور لآخر، وفق التشكيل الجديد للشرق الأوسط.
من يرصد حالة سوريا خلال الأشهر التسعة الماضية لا بدّ أن يشعر بقلق وخوف على مستقبل هذا البلد ووحدته، وذلك لأسباب عديدة، منها: التوتر الداخلى بين السلطة الانتقالية ومكونات الشعب السوري، والاتهامات المتبادلة بين الأطراف الداخلية، ومن ضمنها السلطة، حول الأحداث التى وقعت فى الساحل، وكذلك التى حصلت فى السويداء، إضافة إلى المماطلة والتهرب من تنفيذ اتفاق 10 مارس بين «عبدى – الشرع»، وعدم الاعتراف بحقوق المكوّن الكردى السورى فى الدستور، وتحقيق الاندماج الديمقراطى المطلوب للمؤسسات الأمنية والإدارية بين شمال وشرق سوريا والإدارة فى دمشق.
نعتقد أن الحرب التى استمرت 14 عامًا خلفت تداعيات كبيرة على النسيج الاجتماعى السوري، وأحدثت ثغرات مجتمعية لا بدّ من تجاوزها بالمصالحة الوطنية والتسامح، والتجمع حول الأولويات السورية، وبناء الدولة السورية الجديدة، وخاصة فى بلد يمتاز بالثراء الثقافى وبالتعدد والتنوع المجتمعى.
من أهم تحديات المرحلة الحالية، وفق قراءتنا، هى كيفية بناء الدولة الوطنية السورية، ونظامها السياسي، ومؤسساتها السيادية، وهويتها الجامعة والضامنة لكل أطياف الشعب السورى، من الجنوب للشمال ومن الشرق للغرب، نظرًا لاختلاف وجهات النظر بين الأطراف السورية الرئيسية، وخاصة بين سلطة دمشق الممثلة للتوجه الديني، والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا الممثلة للتوجه الديمقراطى، وكذلك بين السلطة وبين السويداء، فى ظل التدخل الإقليمى الذى يحاول الاستفادة من هذه التباينات الداخلية شمالًا وجنوبًا.
ووفق ما رصدنا من سلوكيات السلطات الانتقالية والإجراءات التى قامت بها فى الأشهر التسعة، وخاصة مع استحقاقات المرحلة الانتقالية، نستطيع القول إن سلطة «هيئة تحرير الشام» لم تكن موفقة بالشكل الذى كان يتمناه الشعب السوري، وكذلك الدول العربية والصديقة، رغم التأييد والدعم الذى قُدِّم لها لتقود هذه المرحلة.
ولو نظرنا مثلًا إلى موضوع الحوار الوطنى السوري، وكيفية وآلية انعقاده، والمخرجات التى خرج بها، والإعلان الدستوري، نلاحظ أن التسرع والأحادية والإقصائية، والرغبة فى السيطرة المطلقة والتملك الكلى لكل مفاصل الدولة ومؤسساتها، كان سيد الموقف. ناهيك عما قيل عن تدخل طرف إقليمى معين لاستبعاد مكونات سورية فاعلة بعينها، إضافة إلى التمثيل الهش والشكلى للشخصيات التى حضرت المؤتمر، فيما هو أشبه بكرنفال جماهيرى للإسناد، وليس للحوار والنقاش على مصير بلد مهم وفى مرحلة مصيرية.
ولو تطرقنا لما صدر لأجل انتخابات مجلس الشعب المقبلة من لجنة التحضير التابعة لجهة بعينها، ووضع وآلية توزيع الكراسى
للمحافظات، وتعيين ثلث النواب، واستبعاد ثلاث محافظات لأهداف سياسية وتحت ضغوطات خارجية معينة بحجج واهية وليست صحيحة، نلاحظ أن الأجواء ربما تذهب للتوتر والتباعد بين السلطة الحالية والمكونات السورية، فى ظل محاولات التمسك بسياسة اللون الواحد.
أما تحدى أو مشكلة الإرهاب، والذى يشغل غالبية دول المنطقة والعالم، وخاصة الدول العربية، فلم نلاحظ بعد الخطوات الكافية واللازمة من قِبل السلطة الانتقالية. وما زالت العناصر الأجنبية موجودة فى المنظومة العسكرية والأمنية للسلطة، رغم كل القلق والتحفظ الذى أبدته المجموعة العربية والغربية، فى الوقت الذى لم يتم استيعاب الكثير من الضباط والأفراد السوريين الذين شاركوا فى الثورة وعانوا طوال 14 عامًا.
كما أن اتفاق العاشر من مارس لم يُنجز بعد لدمج قوات سوريا الديمقراطية، التى لعبت وتلعب دورًا فى محاربة إرهاب «داعش» وخلاياها حاليًا، وتحتفظ بالآلاف من عناصر داعش فى سجونها. ويمكننا التأكيد أن داعش زادت قوتها ونشاطها بعد 8 ديسمبر، مستفيدة من الحالة الأمنية الهشة فى مناطق سيطرة الحكومة الانتقالية. وهذا ما نلاحظه فى زيادة هجماتها على قوات سوريا الديمقراطية، والحملات التى تقوم بها «قسد» فى شمال وشرق سوريا، فى المخيمات وخارجها. والأخطر ما يتسرب من أنباء أن السلطة الانتقالية، ورغم الضغط الأمريكى عليها، لا تزال ترفض محاربة داعش حتى اليوم، ربما لأسباب تتعلق بخلفيتها السابقة، أو خوفها من الانشقاق الداخلى فيها.
أما الوضع الإنسانى والاقتصادى، فهذا يحتاج إلى ما يتجاوز قدرة السوريين، حكومة وشعبًا. ورغم رفع الكثير من العقوبات، وبعض المهرجانات والمحادثات الرسمية للسلطة الانتقالية، وزيارة عدد من رجال الأعمال والشركات العربية الخليجية والتركية والأجنبية، فإنه على مستوى الشارع، وحتى فى دمشق العاصمة، لم يُلاحظ وجود مؤشرات تدل على قرب التحسن أو التغير القريب فى هذا المجال الحياتي. وخاصة فى ظل وجود حاجة كبيرة للسوريين بعد الحصار الذى كان، وبعد الذين يعودون إلى بيوتهم المدمرة نتيجة الحرب، وحتى المخيمات ما زالت تحتضن الكثير من العائلات التى ليس لديها سكن فى موطنها الأصلي، وقد قُطعت عنهم المعونات بعد 8 ديسمبر.
والأهم: هل يشعر الإنسان السورى بالراحة والأمان فى بيته وبين أولاده؟، هذا سؤال كبير ومهم، فى ظل غياب مؤسسة أمنية وطنية وعناصر مدربة على حماية وحفظ حقوق المواطن وكرامته وممتلكاته، فى ظل التجاوزات والانتهاكات وحالات القتل اليومية. صحيح هناك ما تمت تسميته وزارة الدفاع ووزارة الداخلية فى ظل المرحلة الانتقالية وقيادة هيئة تحرير الشام للعملية، ولكن الحالة الفصائلية وعقليتها، أو حالة ما قبل الدولة، ما زالت قائمة وسارية رغم التصريحات والبيانات، وهى السائدة فى المجال الأمنى والعسكرى والاقتصادي. وهذا من أخطر ما يواجهه الشعب والدولة السورية الموعودة، لأن العقلية الفصائلية انتقائية وانتقامية وإقصائية، فى حين أن المطلوب فى هذه المرحلة الحرجة والانعطافية هو العقلية المؤسساتية أو الاستيعابية، أو بالأصح العقلية الوطنية الجامعة، التى ترى فى كل السوريين، مهما كان الاختلاف، مواطنين ومجتمعات