بقلم ولاط جامو
“ليست الجغرافيا قدرًا محتومًا… بل هي مرآة الإرادة حين تعرف كيف تكسر أسوارها.”منذ قرون، كان البحر عند شعوب الشرق مرادفًا للانفتاح، للقوة، وللتجارة التي تصنع الحضارات. ومنذ قرون أيضًا، كان الحرمان من البحر أشبه بلعنة جغرافية تحكم على أمم كاملة أن تبقى رهينة حدود اليابسة. لذلك، لم يكن غريبًا أن يُقال عن الكرد: كيف لأمة لا تطل على البحر أن تحدد مصيرها؟وكأن البحر وحده صكّ اعتراف بالوجود.—الجغرافيا كسلاح سياسيحين ننظر إلى أوزبكستان أو ليختنشتاين – وهما الدولتان الوحيدتان في العالم “مزدوجتا الحبس” – ندرك أن مفهوم “الحرمان من الساحل” ليس حكمًا بالإعدام على هوية الشعوب. فها هي أوزبكستان، محاطة بخمس دول غير ساحلية، ومع ذلك تقف اليوم دولة كاملة السيادة، لها علم وجيش ومكان بين الأمم. وها هي ليختنشتاين، إمارة صغيرة بين الجبال، لا تملك منفذًا على المحيط، لكنها تملك قرارها الحر أكثر مما تملكه دول تطل على المحيطات.إذن، حين يصرّ بعض الساسة في الشرق على أن موطن الكرد “مستحيل” لأنه لا يطل على البحر، فإنهم لا يتحدثون بلغة الجغرافيا، بل بلغة الخوف من الحرية.—البحر الرمزي والبحر الحقيقيموطن الكرد، الممتد بين جبال زاغروس وطوروس، وبين دجلة والفرات حتى جبال أرارات، محاط بدول تقفل عليه منافذه، كما لو أنه “أوزبكستان ثانية”. لكن الفارق أن الكرد لم يُمنحوا حتى حق الاعتراف بوجودهم كأمة، بل جُعلت جغرافيتهم ساحة لتقاسم الآخرين.البحر، في هذه الحالة، ليس ماءً يُلامس الشواطئ، بل أفقًا مفتوحًا على الحرية. البحر الذي يُحرم منه الكرد ليس بالضرورة الأطلسي أو الأبيض المتوسط، بل بحر القرار، بحر الاعتراف، بحر الكرامة.—الحرية ليست في الساحلالتاريخ يُكذّب مقولة “لا وطن بلا بحر”. سويسرا بلا بحر، لكنها باتت رمزًا للاستقرار والحياد. النمسا، المجر، التشيك، سلوفاكيا… كلها شعوب محصورة في اليابسة، لكنها تملك دولًا كاملة العضوية في الأمم المتحدة.فما الذي يمنع الكرد من أن يكون لهم ما كان لتلك الشعوب؟ليس البحر هو المانع، بل السياسة. ليس الساحل الغائب، بل القرار المصادَر.—كردستان والقدر المفتوححين يواجه الكرد خطاب الإنكار الذي يلوّح بالجغرافيا، عليهم أن يعوا أن معركتهم ليست مع الخرائط بل مع من يرسم الخرائط. إن الحرية لا تقاس بعدد الأميال البحرية، بل بعدد الخطوات التي تقطعها الأمم نحو كرامتها.قد يقولون: “أنتم حبيسون”.لكن الحقيقة: نحن لسنا حبيسي الجبال، بل حبيسي صمت العالم. لسنا أسرى اليابسة، بل أسرى خيانة الجغرافيا حين تتحالف مع السياسة.—البحر الغائب ليس عذرًا… بل هو فضيحة سياسيةأيها الساسة في الشرق الأوسط:تتذرعون بالجغرافيا لتبرير إنكاركم لحق أمة كاملة في الحياة. تقولون: الكرد بلا ساحل، بلا منفذ إلى العالم الخارجي، فكيف تكون لهم دولة؟لكنكم تعلمون أن العالم مليء بأمم بلا سواحل، ومع ذلك تحيا دولًا محترمة في قلب أوروبا وآسيا. المشكلة ليست في غياب البحر، بل في غياب ضميركم.أما أنتم – أيها القادة والأحزاب الكردية – فالمسؤولية عليكم أعظم وأثقل. لقد جعلتم من التردد سياسة، ومن الخجل نهجًا، حتى باتت المطالبة بالحق الطبيعي في تقرير المصير تبدو كأنها خروج عن المألوف. إن الشعب الذي قدّم أنهارًا من الدماء، يجد نفسه اليوم أمام قيادات تتردد في أن تقول كلمته البسيطة: نحن نستحق أن نكون أمة حرة.ولعل المقارنة هنا ضرورية: حين كانت فيتنام تعيش أسوأ أشكال الحصار العسكري والسياسي في القرن العشرين، لم يتردد قادتها في إعلان أن الاستقلال هدف لا مساومة فيه. لم يكن لفيتنام منافذ بحرية مفتوحة آنذاك تكفل لها التواصل الحر مع العالم، وكانت محاصرة بالقوى العظمى شرقًا وغربًا، لكنها امتلكت قيادة صلبة حوّلت الحصار إلى دافع للانتصار. واليوم يقف الشعب الفيتنامي دولة ذات سيادة، لأن قادته لم يساوموا على الكرامة ولم يختبئوا خلف حجج الجغرافيا.بينما يقف القادة الكرد – ومعهم أحزابهم – في موقعٍ مختلف تمامًا: يتجنبون المجاهرة بالحق التاريخي، يكتفون بالشعارات الجزئية، ويتعاملون مع حق تقرير المصير كما لو كان عبئًا سياسيًا عليهم. بهذا النهج، لا يخونون فقط حاضر الأمة، بل يسرقون من الأجيال القادمة حقها في الحلم.—خاتمةموطن الكرد قد لا يطل على المحيطات، لكنه يطل على عمق التاريخ. قد لا يمتلك ساحلًا بحريًا، لكنه يمتلك ساحلًا إنسانيًا من التضحية والدم واللغة والذاكرة.وإذا كان البحر هو رمز الانفتاح، فإن الكرد قد صنعوا بحرهم الخاص في صدورهم، بحرًا لا تجف أمواجه، حتى وإن أُحيطت جغرافيتهم بأسوار من الحصار.إنها ليست معركة جغرافيا، بل معركة إرادة. وأمة تعرف إرادتها لا تحتاج إلى محيط كي تكتب اسمها في سجل الشعوب الحرة.—