وهذا يحمل دلالتين مهمتين؛ أولاهما، أنّ التنظيم رغم وجوده العلني في عدد من البلدان إلا أنّه يسعى للاختباء والانزواء وراء بعض الشعارات التي لا تُعبر عنه، لكنه يُريد من خلالها أن يُخفي أهدافه الحقيقية، أما الدلالة الثانية فهي أنّ التنظيم يُدرك فساد هذه الأفكار فيسعى لإخفائها من خلال عمله السرّي.
وهذا ما حمله مؤسس التنظيم حسن البنا حتى بات سلوكًا عامًا، كما بات جزءًا مهمًا من بنيته وأفكاره، ولذلك فشلت كل الدول التي حاولت إضفاء الشرعية على وجوده أو إعطائه مساحة من العمل فوق الأرض وبشكل علني، وهنا تبدو المشكلة في طبيعة التنظيم وفي أفكاره وليس في الظرف السياسي ولا مساحة الحرّية الممنوحة له.
فمشكلة الإخوان ليست في مواجهة الأنظمة السياسية له، لكن في الأفكار والأهداف التي يحملها ويرفض الإعلان عنها؛ حيث امتنع حسن البنا عن الإفصاح عن نوايا التنظيم في مراحل النشأة الأولى وأجل ذلك بعد 10 سنوات من التدشين الأول!
فرغم أن البنّا أعلن عن جماعته في العام 1928 وقدمها على أنها جماعة دعوية، لينضم إلى حركته في البدايات عدد غير قليل من المتيمين بالأوراد والأذكار، إلا أنه أعلن عن نيته الحقيقية بعد 10 سنوات من النشأة وتحديدًا في المؤتمر الخامس والذي عقده في فبراير/شباط من العام 1939.
وهنا أبلغ حسن البنا ولأول مرة أنصاره وحواريه في هذا المؤتمر أنه قرر ممارسة العمل السياسي، وأنه لن يتفرع بعد اليوم للتراتيل والأذكار التي تجمع النّاس حوله بسببها، وبدأ بالدعوة إلى استخدام ما أسماه بالقوة أو العنف، فأنشأ على خلفية هذا الإعلان النظام الخاص أو الجناح العسكري للجماعة، وهو عبارة عن مليشيات مارست العنف ضد الإنجليز والمصريين على حد سواء.
الإخوان تنظيم لا يعرف إلا العمل تحت الأرض، لذلك مهما أتيحت له من مناخ للعمل العام، فإنه يلجأ دائمًا إلى العمل من خلال السراديب السرّية، وهذا ليس قرارًا ولا توجهًا، لأنه ببساطة مرتبط ببنية التنظيم وميراثه على مدار العقود الـ10 الماضية، فضلًا عن أن البنا من أصّل لهذا التوجه داخل التنظيم.
إن لجوء البنا للعمل السرّي مرتبط بطبيعته التي يُخفي وراءها من الأهداف أكثر مما يُبديه، ولأنّ أهدافه غير مشروعة، فإنه يتجه مباشرة إلى العمل السرّي الذي أدمنه التنظيم؛ وهنا نُدرك أنّه اتجه إلى إخفاء نواياه تجاه أعضائه وأنصاره كما فعل البنّا وقادة التنظيم ومرشديه فيما بعد، فما بالك بما فعله التنظيم بخصوص هذه الأفكار وتلك النوايا التي أخفاها على المجتمع والنّاس وليس عن أنصاره وحواريه فقط.
لجوء الإخوان للعمل السري جزء من طبيعته وتكوينه؛ فإذا نظرت إلى سلوك التنظيم وممارسته في أي دولة يتواجد فيها تُدرك حجم الأزمة؛ فالعمل السرّي جزء من استراتيجية الإخوان وإحدى العلامات المميزة له والتي لا يمكن له أن يتخلى عنها، فهو لا يملك الشجاعة ولا الأفكار الناضجة التي تُمكنه من إعلان ذلك على الملأ حتى يحكم عليها النّاس، ولأنه يسعى إلى السيطرة الكاملة عبر الانقلاب على الحكم فهو يخفي هذه الأفكار، كما يُخفي توجهاته لاستخدام العنف في مراحل تاريخية ويستخدمها في مراحل أخرى.
أغلب التنظيمات الإسلاموية والإخوان على رأسها قد تربوا على العمل السرّي، لذلك هذه التنظيمات دائمًا لها أهداف علانية وأخرى سرّية، وهذا يبدو واضحًا في تصريحات قادة التنظيم؛ فبعضها قد يُخاطب العامة من النّاس وبعضها الآخر قد يُخاطب «صف الإخوان»، وهذا يدخل في إطار الأهداف السرّية غير المعلنة؛ حيث يُخاطب كل واحد بأفكاره التي تُناسبه أو تلك التي يُمكن أن يقبلها مخفيًا بقيتها.
غالبًا ما تصطدم أهداف الإخوان بالقيم سواء المجتمعية أو الدينية، لذلك يُخفون هذه الأهداف والعجيب أنهم يدّعون أنهم جماعة علانية؛ وهذا قد يكون أحد أسباب إخفاء هذه الأهداف ونواياهم الأخرى تجاه السيطرة أو ما اصطلحوا على تسميته داخل التنظيم بالتمكين.
النظام الخاص يقوم بأعمال سرّية سواء من خلال ممارسة العنف المكلف به أو من خلال المحاضرات والدروس التي كان يُخاطب بها المؤسس الأول حسن البنا أنصاره في التنظيم السرّي المكلف بهذه الممارسة؛ وهنا يستعيض الإخوان بالإعداد الروحي والبدني لممارسة العنف حتى ولو أجلوا هذا الاستخدام، وهو ما لم يُعلنوه على الملأ كجزء من سريّة التنظيم.
والسرّية هي جزء أصيل من بنية الجماعة على المستوى الفكري والتنظيمي معًا؛ نحن نتحدث عن جماعة ذات خطاب علني وتنظيم آخر سري غير معلن تابع لها أيضًا، وهذا ربما سبب إحالة 84 متهمًا إلى محكمة أبوظبي الاتحادية الاستئنافية من قبل النائب العام المستشار حمد سيف الشامسي بتهمة إنشاء تنظيم سري.
وهنا تبدو طبيعة التنظيم التي لم يتخل عنها يومًا ما ألا وهي العمل السرّي، كما لم تتخل الجماعة عن انحيازها للعنف سواء على المستوى الفكري أو التنظيمي، خاصة وأنّ المحكمة تُحقق مع المتهمين في تهم تتعلق بتقويض نظام الحكم على خلفية إخفاء نوايا إنشاء التنظيم السرّي، وهي تهمة أخفتها المجموعة التي حوكمت قبل 10 سنوات في دولة الإمارات.
وهنا تبدو أهمية دولة الإمارات في مواجهة كل أنشطة تنظيم الإخوان السرّية والعلنية على حد سواء، وهذا ما لم تنتبه إليه الكثير من الدول التي تواجه الإخوان لكنها في ذات الوقت قد لا تُدرك تحركات التنظيم السرّية أيضًا، وبالتالي تبدو أهمية المواجهة الاستباقية لأي تحركات غير علانية.
أهداف الإخوان غير مشروعة وغير معلنة في نفس الوقت؛ ما يُقال في العلن يختلف كثيرًا عما يُقال في السر أو ما تُريد الجماعة الوصول إليه، لذلك من المهم الكشف عن الوجود السرّي للتنظيم كما أدركت ذلك دولة الإمارات، فقامت على الفور بتقديم المتهمين للمحاكمة العاجلة.
مشروع الإخوان قائم على المغالبة وليس المشاركة السياسية، لذلك يُخفون جزءًا من أفكارهم ولا يُصرحون بها خشيّة رفض المجتمع لها أو مواجهته لهذه الأفكار وبالتبعية لمن يحملها؛ وهذا سبب توجه الإخوان للعمل السري، فهم يرفضون أن يكونوا جزءًا من الحكم، لأنهم يُريدون ببساطة أن يسيطروا عليه، وهذا سبب آخر لإدمانهم العمل السري.